توتر العلاقات الجزائرية المالية يخرج من الإطار الدبلوماسي إلى الميدان الشعبي
في تطوّر يُعد من أخطر المنعطفات الجيوسياسية في منطقة الساحل والصحراء، شهدت العلاقات الجزائرية – المالية تصعيدًا حادًا تجلّى بقرار الجزائر إغلاق حدودها البرية والجوية مع مالي. هذا القرار، وإن بدت خلفياته سياسية وأمنية، إلا أن تداعياته ضربت بقوة في عمق الشارع المالي، الذي خرج بمظاهرات واسعة تنديدًا بالغلاء المعيشي، والتهميش، وانعدام الأفق.
1/ الأزمة بين الجزائر ومالي : جذور متشابكة
لا يمكن فهم الأزمة الحالية بمعزل عن السياق التاريخي لاتفاق الجزائر 2015، والذي جاء لوقف نزاع طويل الأمد بين الدولة المركزية المالية ومقاتلي الحركات الأزوادية في الشمال. الجزائر، بصفتها راعية الاتفاق، ظلت تلعب دور الوسيط القوي بين الأطراف. لكن بعد انقلاب 2021، تحوّلت المعادلة كليًا، حيث بدأت السلطات العسكرية الجديدة في مالي تنظر إلى الجزائر بعين الريبة، متهمة إياها بدعم شخصيات معارضة مثل الإمام محمود ديكو.
أتى انسحاب مالي من الاتفاق بمثابة ضربة دبلوماسية موجعة للجزائر، التي ردت بإغلاق الحدود، ما اعتبره مراقبون تحولًا في موقفها الحيادي إلى استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي.
2/ مالي في حضن روسيا : شريك جديد أم استعمار ناعم ؟
في ظل فتور العلاقات مع فرنسا وشركاء الغرب، اتجهت باماكو شرقًا، فوجدت في موسكو حليفًا جديدًا. هذا التحالف، الذي تجسّد في قدوم عناصر “فاغنر”، أعاد رسم ملامح التوازن الإقليمي، وأثار قلق الجزائر، التي لا تخفي تخوفها من وجود عناصر غير نظامية على تخومها الجنوبية.
لكن هذا التقارب لم يخلُ من الجدل. ففاغنر، المتهمة بانتهاكات في عدة دول أفريقية، لا توفر الاستقرار طويل الأمد، بل تعمّق الاعتماد الأمني، وتضعف المؤسسات الوطنية. وقد عبّرت دول الساحل المجاورة عن تخوفها من هذا الميل المالي نحو تحالفات غير تقليدية.
3/ المواطن المالي يدفع الثمن : غلاء، بطالة، وتضييق
الإجراء الحدودي الجزائري لم يكن مجرد ورقة دبلوماسية؛ بل سقط كالصاعقة على كاهل المواطن المالي. فالمناطق الشمالية – تمبكتو، كيدال، غاو – تعتمد بنسبة تفوق 70% على واردات قادمة من الجزائر، من وقود وغذاء وأدوية وسلع استهلاكية.
منذ إغلاق الحدود، قفزت الأسعار بنسب جنونية: السكر تضاعف، الوقود ندر، وقطع الغيار شبه اختفت. ومع عجز الدولة عن توفير بدائل أو تسهيلات، تصاعد الاحتقان الشعبي، لا سيما في أوساط الشباب والطلبة والتجار، الذين وجدوا أنفسهم على حافة الإفلاس.
4/ الشارع ينتفض .. والدولة تقمع
خرج آلاف الماليين في مسيرات احتجاجية في العاصمة باماكو ومدن الشمال، رافعين شعارات تندد بـ “السياسات العقيمة” و”بيع القرار الوطني للخارج”. لم تكن هذه الاحتجاجات الأولى، لكنها الأكثر تنظيمًا واتساعًا منذ تولي المجلس العسكري الحكم.
الرد الرسمي كان أمنيًا بامتياز: اعتقالات، قمع، ومطاردات لناشطين وصحفيين، وسط تنديد من منظمات حقوقية محلية ودولية. هذه الأجواء تعكس هشاشة الحكم، وفقدانه لخطاب جامع قادر على امتصاص الغضب المتراكم.
5/ نظرة تحليلية : الاقتصاد السياسي في مأزق
من منظور اقتصادي، مالي دولة ريعية، تعتمد على المساعدات الأجنبية، وتحويلات المغتربين، وبعض الصادرات الزراعية والذهبية. لكن مع تراجع الاستثمارات الخارجية، وتدهور علاقاتها مع الغرب، واستمرار العقوبات الجزئية من إيكواس، بات اقتصادها مهددًا بالانكماش العنيف.
التحالف مع روسيا – رغم مظهره السيادي – لا يُقدّم حلولًا اقتصادية جذرية، بل يدفع البلاد إلى تبعية جديدة، في ظل غياب الشفافية والحوكمة في إدارة العقود والاتفاقيات. وفي هذا السياق، تصبح البلاد أكثر عرضة للديون، أو لحالة “العزلة الاقتصادية”، وهو سيناريو كارثي.
6/ الحلول الممكنة .. فرصة أخيرة قبل الانفجار
لا تزال أمام مالي فرصة لتصحيح المسار، وإن كانت تضيق يومًا بعد يوم. المطلوب:
إعادة فتح الحوار مع الجزائر، ولو بوساطة طرف ثالث (الاتحاد الإفريقي، موريتانيا، أو الأمم المتحدة).
تجميد التعاون الأمني مع فاغنر أو على الأقل إخضاعه لرقابة وطنية وبرلمانية.
إطلاق عملية انتقال سياسي شاملة، تتضمن عودة الحكم المدني، انتخابات شفافة، وحوار وطني.
العودة إلى سياسة التوازن الإقليمي، بدلًا من الارتهان لمحور دولي واحد.
7/ الخاتمة : الدولة أمام مفترق طرق
ما يحدث في مالي اليوم ليس مجرد أزمة حدود أو خلاف عابر مع الجزائر، بل انعكاس لأزمة عميقة في مشروع الدولة، في علاقاتها بجوارها، وفي قدرتها على تلبية الحد الأدنى من احتياجات شعبها.
إذا لم تبادر باماكو فورًا إلى معالجة الأسباب لا النتائج، فستجد نفسها أمام انفجار شعبي لا يمكن السيطرة عليه، وقد يدخل البلاد في دوامة من الفوضى لا تختلف كثيرًا عن سيناريوهات ليبيا أو الصومال.
إنها لحظة الحقيقة: إما دولة مسؤولة، أو لا دولة.
بقلم : كليبي بدرالدين