في واحدة من أسرع عمليات التشريع وأكثرها إثارة للقلق، أصدر الجنرال أسيمي غويتا، رئيس المجلس الانتقالي في مالي، قانوناً يُلغي ميثاق الأحزاب السياسية الذي كان يُنظم الحياة السياسية في البلاد منذ عام 2005. القرار جاء بعد أقل من 24 ساعة من تصويت المجلس الوطني الانتقالي عليه، مما يبعث برسالة واضحة: السلطة العسكرية عازمة على الهيمنة الكاملة على المشهد السياسي، ولم تعد ترى في المؤسسات سوى أدوات لتنفيذ إرادتها، لا كيانات قائمة على المشروعية الدستورية.
من ناحية السياق القانوني والدستوري للقرار
الميثاق الملغى لم يكن مجرد قانون تنظيمي، بل وثيقة تُجسد التعددية السياسية وتُكرس مبدأ حرية التنظيم السياسي، وهو ما تنص عليه غالبية الدساتير الحديثة، بما فيها دستور مالي ذاته. وبالتالي، فإن إلغاءه دون سند دستوري واضح، ودون توفير بديل قانوني فوري، يُعد خرقاً جسيماً للعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وإعلاناً ضمنياً عن تعليق العمل بالمبادئ الديمقراطية الأساسية.
من الجهة القانونية، فإن ما جرى يُمثل تجاوزاً للحدود التي ينبغي أن تحكم المرحلة الانتقالية. المجلس الانتقالي ليس مؤسسة منتخبة، ولا يحمل تفويضاً شعبياً لتفكيك البنية السياسية للبلاد، بل يفترض به أن يكون ضامناً لانتقال سلمي ومنظم نحو وضع دائم ومستقر. أي إجراء تتخذه هذه السلطة خارج إطار المهمة الانتقالية المحددة هو منعدم الشرعية، حتى لو اكتسى ظاهرياً بطابع “القانون”.
الإلغاء بلا بديل يعتبر تفريغ الممنهج للحياة السياسية
إن أخطر ما في هذه الخطوة أنها لم تأتِ في إطار إصلاح شامل، بل كقرار معزول، يُفرغ الساحة السياسية من إطارها القانوني، ويترك الأحزاب في حالة من التيه القانوني. القانون الجديد لم يُحدد موعداً لصياغة ميثاق بديل، ولم يُشكّل لجنة تمثيلية لصياغة إطار جامع، ولم يفتح المجال لحوار وطني شامل. هذا التجاهل المتعمد يُعبّر عن نية مبيتة لعزل الأحزاب، وربما إعادة هيكلتها بما يتناسب مع مصالح السلطة الحاكمة.
يبدو أن الجنرال غويتا يسير على خطى أنظمة معروفة في القارة الإفريقية، استخدمت مرحلة “الإصلاح القانوني” كغطاء لتعليق العمل بالحياة الحزبية، وإرساء نظام سياسي أحادي يقوم على الولاء للسلطة لا للمجتمع.
المرحلة الانتقالية في مالي : انحراف عن المسار
منذ الإطاحة بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في أغسطس 2020، وعد المجلس العسكري الماليين والمجتمع الدولي بمرحلة انتقالية تنتهي إلى تنظيم انتخابات عامة وصياغة دستور دائم. لكن ما شهدناه خلال السنوات الثلاث الماضية لا يوحي بأي تقدم في هذا المسار. بل على العكس، أظهرت السلطة الانتقالية ميلاً متزايداً لاحتكار القرار، وإقصاء القوى السياسية، وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس أمني وعسكري.
إلغاء ميثاق الأحزاب ليس الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، بل هو تتويج لسلسلة من الإجراءات التي طالت القضاء، الإعلام، المجتمع المدني، والفضاء العام. كل ذلك يندرج في سياق تفكيك البنية الديمقراطية تحت ستار “الاستقرار والسيادة الوطنية”.
انعكاسات القرار داخلياً وخارجياً
داخلياً، فإن هذا الإلغاء يُهدد ما تبقى من أطر الحوار الوطني. فبلا أحزاب، من سيُمثل الشعب؟ ومن سيُشارك في صياغة القوانين المستقبلية؟ ومن سيُنافس في الانتخابات إذا كانت هناك انتخابات فعلاً؟ الحالة الراهنة تدفع نحو تركيز غير مسبوق للسلطة في يد الجيش، وتُحرم المواطنين من حقهم في التمثيل السياسي والتنظيم الحر.
خارجياً، فإن القرار يُضعف موقف مالي أمام المجتمع الدولي. فالاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) والاتحاد الأوروبي كانوا واضحين في التأكيد على أهمية الحفاظ على التعددية السياسية كشرط للانخراط في أي دعم أو شراكة. قرار غويتا قد يُعيد فرض العقوبات، ويُعزل البلاد دولياً، ويُقوض ما تبقى من ثقة مالية الأسواق.
السيناريوهات المستقبلية المحتملة
إزاء هذا المشهد، يمكن استشراف ثلاثة مسارات رئيسية
الاستمرار في نهج الهيمنة العسكرية: قد يستمر المجلس الانتقالي في تركيز السلطة، وتهميش الأحزاب، وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، ما يُكرس نظاماً استبدادياً جديداً.
انفجار شعبي أو احتجاجات سياسية: مع غياب الأطر القانونية والسياسية للتعبير، قد يُفجر هذا القرار الشارع المالي، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والتهميش المتزايد للقوى المدنية.
عودة الضغوط الإقليمية والدولية: قد تدفع الضغوط الدولية، وربما تهديدات بفرض عقوبات جديدة، السلطة الانتقالية إلى التراجع، أو على الأقل تقديم تنازلات شكلية لإرضاء الخارج.
دعوة إلى التكتل المدني والضغط السياسي السلمي
في ظل هذا الوضع الخطير، لم يعد أمام القوى السياسية والمدنية سوى التوحد في جبهة دفاعية مشتركة. المطلوب اليوم ليس فقط الدفاع عن ميثاق سياسي، بل عن مبدأ المواطنة ذاته، وعن حق الناس في اختيار ممثليهم، وفي أن تكون الدولة خاضعة لإرادة المجتمع، لا محكومة من الثكنات.
الرد يجب أن يكون سياسياً، سلمياً، ومدنياً. عبر تكتلات واسعة، وبيانات موحدة، ووسائل إعلامية مستقلة تُفضح ما يجري، وتُحشد الرأي العام داخلياً وخارجياً. الصمت في هذا التوقيت يُعد قبولاً بالأمر الواقع، ومشاركة ضمنية في قتل التجربة السياسية المالية.
قرار الجنرال غويتا بإلغاء ميثاق الأحزاب السياسية لا يمكن قراءته إلا في إطار مشروع سلطوي يسعى لإعادة تشكيل الدولة من الصفر، على قاعدة عسكرية لا شعبية. إن هذا القرار يجب أن يُقابل بوعي مدني متقدم، وحشد سياسي واسع، لأن ما هو على المحك ليس قانوناً، بل مصير وطن كامل.
بقلم : كليبي بدرالدين