تصريحات ابراهيم تراوري حول إسقاط المسيرة
في خضم التحولات العنيفة التي تضرب منطقة الساحل الإفريقي، وتحت سحب كثيفة من عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية المتتالية، لا تزال الجزائر، بثبات الجغرافيا ووزن التاريخ، تتعامل مع محيطها الإقليمي بما تفرضه المسؤولية، لا الانفعال، وبلغة السيادة العاقلة، لا المراهقة الجيوسياسية.
لكنّ هذا المنهج الجزائري، الذي مزج لعقود بين ضبط النفس والدفاع الصارم، تلقّى مؤخرًا ردًا غير متّزن من الجنرال إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو الانتقالي، الذي وصف إسقاط الجزائر لمسيّرة ماليّة اخترقت مجالها الجوي بأنه “عمل مؤسف وغير ودي”.
تصريحٌ بدا، في مضمونه ومبناه، أقرب إلى التعبير الانفعالي منه إلى البيان السياسي المسؤول، خصوصًا حين يصدر من رئيس وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، ولم يخض بعد امتحان الشرعية الشعبية أو الدولية.
الجزائر: مدرسة سيادية في زمن الفوضى
منذ الاستقلال، عُرفت الجزائر بأنها دولة تصنع سياساتها بنفسها، وترسم حدودها بأيديها، وتحمي مصالحها دون ضجيج أو ارتهان. وهي حين قررت إسقاط الطائرة المسيّرة التي اخترقت أجواءها، لم تكن في معرض التصعيد أو الاستعراض، بل مارست ما تتيحه لها القوانين الدولية التي تُجيز للدول اتخاذ ما تراه ضروريًا لحماية أمنها الوطني ومجالها السيادي.
ولأن الجزائر ليست دولة وظيفية ضمن محاور عسكرية أو أجندات إقليمية، فإن ردها لم يكن موجّهًا ضد مالي، ولا ضد بوركينا فاسو، بل ضد منطق اختراق السيادات واختبار الحدود.
خطاب تراوري: محاولة للالتفاف على مسؤولية الفعل
ما قاله الجنرال تراوري لا يمكن فصله عن السياق الذي تُدار فيه شؤون دول الساحل في الفترة الأخيرة.
الأنظمة العسكرية الصاعدة في المنطقة، والتي تُدير السلطة بمنطق الانقلاب السياسي لا بمنطق الدولة، تحاول في أحيان كثيرة تصدير الأزمات إلى الخارج، والظهور بمظهر “الضحية” أمام شعوبها.
لكن أن يتحول خرق الأجواء الجزائرية إلى “عمل مؤسف من الجزائر”، فهو انقلاب لغوي على المنطق الدبلوماسي، وخطاب لا يخدم أي تقارب، بل يكشف قصر نظر في فهم التوازنات.
فالجزائر لا تعادي دول الجوار، لكنها لا تصمت حين يتعلق الأمر بكرامتها السيادية. ومن الخطأ الجسيم اعتبار ضبط النفس الجزائري ضعفًا، أو اعتقاد أن علاقات الأخوة تعني التغاضي عن خروقات قد تكون جسراً لتهديدات أكبر.
الجزائر لا ترد ببيانات… بل بمنظومات دفاع
في مناطق العالم الأخرى، ترد الدول على الخروقات برسائل احتجاج، أو عبر وسيط ثالث.
أما الجزائر، فحين ترى مسيّرة مجهولة تخرق أجواءها، لا تعقد المؤتمرات الصحفية، بل تُفعل منظومات الدفاع.
لا توزّع الاتهامات، بل تُطلق القرار الحاسم.
وهنا يكمن الفرق بين دولة تُدار بالعقيدة، ودول تُدار بالارتجال.
رسالة الجزائر: الصمت لا يعني التساهل
منذ سنوات، امتنعت الجزائر عن التدخل المباشر في مسارات عدم الاستقرار التي تعصف بجيرانها. لم تتورط، ولم تُصعّد، ولم تنافس على النفوذ كما تفعل قوى إقليمية أخرى.
لكنها في المقابل، كانت واضحة: من يقترب من حدودها بغير تنسيق، لن يُعامل كصديق، ولن يُعفى من الرد.
لذلك، فإن تصريحات الجنرال تراوري، بدل أن تُقرأ كدعوة دبلوماسية، ظهرت كإنكار ضمني لحقيقة أن المسيّرة كانت خطأً مزدوجًا: تقنيًا، وسياسيًا.
أخيرا: دروس من الحادثة
لا تُقاس العلاقات بين الدول بحجم المجاملات، بل بعمق الاحترام المتبادل.
لا تحمي الجزائر مجالها الجوي باسترضاء أحد، بل بإرادة وطنية مستقلة.
من يسعى لبناء تكتلات أمنية في الساحل، عليه أن يبدأ من بوصلة السيادة، لا من منطق التبرير.
تصريح الجنرال تراوري لم يكن إلا محاولة لامتصاص الحرج أمام سقوط طائرة لم يكن لها أن تطير هناك أصلًا.
أما الجزائر، فقد قالت كلمتها دون أن تصرخ: “نحن نحترم، ولكننا لا نُختَبر”.