بقلم : بدر الدين كليبي
في سابقة تعكس تدهور الحالة المؤسسية والسياسية في منطقة الساحل الإفريقي، اجتمع رؤساء أركان القوات الجوية لكل من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر في العاصمة باماكو، خلال الفترة الممتدة من 13 إلى 17 أبريل 2025، في أول لقاء للجنة العسكرية الجوية لما بات يُعرف بتحالف “دول الساحل والصحراء”. هذا الاجتماع، الذي رفع شعار “نحو دفاع جوي متكامل وسيادة معززة”، يأتي في سياق إقليمي متفجّر تتقاطع فيه الأزمات الأمنية، الاقتصادية، والشرعية السياسية.
لكن خلف الشعارات العسكرية والتنسيق التقني، يكمن تحوّل خطير في بنية الحكم في هذه الدول، حيث أصبحت الجيوش لا تكتفي بإدارة شؤون الدفاع، بل تهيمن على الحياة السياسية بالكامل، وتعيد رسم معالم الدولة الإفريقية بعيداً عن المسار الديمقراطي الذي ناضلت من أجله شعوب القارة طيلة العقود الماضية.
أولاً : ثلاث دول … وثلاثة انقلابات
تشترك مالي، بوركينا فاسو، والنيجر في مسار سياسي واحد منذ عام 2020: إسقاط الحكومات المنتخبة بواسطة العسكر، وفرض سلطات انتقالية لا تخضع لأي رقابة ديمقراطية. في كل حالة، استُخدم الخطاب الأمني كذريعة: فشل الدولة في التصدي للإرهاب، ضعف المؤسسات، اختراقات أجنبية، وانهيار الثقة في النخب السياسية.
غير أن الواقع يؤكد أن هذه الانقلابات لم تُحدث أي تغيير جذري في المعادلة الأمنية، بل إن مستوى العنف ضد المدنيين تصاعد، واتسعت رقعة النزوح، وازدادت هشاشة المؤسسات. لقد تم استبدال الفساد السياسي بسلطة عسكرية أكثر انغلاقاً، وأكثر شراسة في التعامل مع الخصوم والمعارضين.
ثانياً : عسكرة الأمن الإقليمي وتفكيك العمل الجماعي الإفريقي
ما يسمى بـ “اللجنة العسكرية الجوية” بين الدول الثلاث لا يُمكن فصله عن مسار تفكيك الهياكل الإقليمية التقليدية. فهذه الدول انسحبت تباعاً من مجموعة دول الساحل الخمس (G5 Sahel)، ورفضت التعاون مع القوات الفرنسية والأوروبية، وهاجمت علناً الاتحاد الإفريقي، واعتبرته أداة بيد القوى الغربية.
في المقابل، تسعى هذه الأنظمة إلى تشكيل محور أمني جديد، يقوم على التنسيق العسكري البيني، ويقصي الدول الإفريقية ذات الحكومات المدنية، في محاولة لبناء “نموذج عسكري بديل” للحكم والتعاون.
هذا التوجه يمثل تقويضاً خطيراً لمبادئ الاتحاد الإفريقي التي تنصّ على رفض التغييرات غير الدستورية للسلطة، واحترام مبدأ التداول الديمقراطي، والحفاظ على مؤسسات الدولة المدنية. إن تشكّل تكتلات عسكرية موازية يُنذر بانقسام سياسي خطير داخل القارة، ويضعف من قدرة القارة على التحدث بصوت واحد في المحافل الدولية.
ثالثاً : السيادة كذريعة لانتهاك حقوق الإنسان
تُرفع في الخطاب الرسمي لهذه الأنظمة شعارات السيادة والتحرر من الهيمنة الأجنبية. لكن السيادة لا تُقاس بالشعارات، بل بقدرة الدولة على حماية الحقوق، وإنفاذ القانون، وضمان العدالة الاجتماعية.
في الواقع، شهدت هذه الدول تدهوراً غير مسبوق في أوضاع حقوق الإنسان:
في مالي، توثق منظمات حقوقية مستقلة ارتكاب جرائم حرب في حق مدنيين في وسط البلاد، خاصة من قبل القوات النظامية وشركائها من المرتزقة.
في بوركينا فاسو، تم حظر وسائل إعلام، واعتقال صحفيين، وإغلاق منظمات حقوقية تحت ذريعة التعاون مع “قوى أجنبية معادية”.
أما في النيجر، فقد شُكّلت محاكم عسكرية لمحاكمة معارضين مدنيين، وتم تجريم التظاهر والنشاط الحقوقي السلمي.
السلطات في الدول الثلاث تعتبر أي مراقبة دولية تدخلاً، وأي نقد تهديداً، وأي معارضة خيانة. وهكذا تتحول السيادة إلى درع زائف يخفي وراءه غياباً كاملاً للمساءلة، وتعطيلاً لمنظومة العدالة، وتكميمًا للأفواه.
رابعاً : شراكات أمنية بديلة أم رهانات خاسرة ؟
مع الانفصال عن الغرب، تتجه هذه الأنظمة نحو شراكات أمنية بديلة، أبرزها مع روسيا. لكنها شراكات غير متكافئة، تفتقر للشفافية، وتدور في أغلبها حول توريد السلاح والخدمات الأمنية، دون برامج تنموية أو إصلاح مؤسسي.
وجود عناصر عسكرية أجنبية (سواء رسمية أو عبر شركات خاصة) يزيد من تعقيد المشهد، ويطرح أسئلة حول السيادة الحقيقية، ومدى قدرة هذه الدول على اتخاذ قراراتها بمعزل عن تأثير هذه القوى الجديدة.
خامساً : التداعيات الإقليمية والدولية
تحوّل الساحل إلى “منطقة عسكرية مغلقة” يُهدد استقرار إفريقيا الغربية بالكامل. فالمناطق الحدودية أصبحت فضاءات مفتوحة للتنقلات المسلحة، والجماعات الإرهابية تستفيد من غياب التعاون الاستخباراتي، ومن العداء بين العواصم الإفريقية.
كما أن تصاعد ظاهرة الانقلابات العسكرية يُرسل إشارات سلبية إلى دول تعاني من أزمات سياسية داخلية، ويُضعف الحركات المدنية والإصلاحية، ويُشجع على منطق القوة والغلبة بدل الحوار والمؤسسات
على المستوى الدولي، فإن تقبّل هذه الأنظمة كأمر واقع، والتعاون معها دون شروط واضحة، يُعد خرقاً للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، ويضرب مصداقية القوى الغربية والمنظمات الدولية التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطية.
توصيات وموقف مطلوب
على المجتمع الدولي، وخاصة الاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، أن يتبنوا موقفاً موحداً تجاه هذه الأنظمة، يقوم على:
1/ رفض شرعنة الانقلابات، واعتبارها خروجاً على النظام القانوني الإفريقي والدولي.
2/ فرض عقوبات ذكية تستهدف القادة العسكريين المتورطين في قمع الشعوب، وليس الشعوب نفسها.
3/ ربط أي تعاون أمني أو اقتصادي بخارطة طريق واضحة للانتقال السياسي، وعودة الحكم المدني، وتنظيم انتخابات حرة تحت إشراف دولي.
4/ تعزيز الدعم للحركات المدنية والإعلام الحر في هذه الدول، ومضاعفة الجهود لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان.
خاتمة: لا أمن بلا شرعية … ولا سيادة بدون حقوق
إن ما يحدث اليوم في الساحل الإفريقي ليس مجرد تنسيق جوي أو تعاون عسكري عابر، بل هو تأسيس لنموذج سلطوي عسكري يُهدد القارة بأكملها.
إن القارة التي ناضلت من أجل التحرر لا يمكن أن تسلّم مستقبلها للجنرالات.
والأمن الحقيقي لا يُبنى بالصواريخ، بل بالثقة الشعبية، والمؤسسات الدستورية، والعدالة الاجتماعية.
إنقاذ الساحل يبدأ باستعادة صوت الشعوب… لا بتعزيز سلطة البنادق.