بين ديناميكيات قديمة وآفاق جديدة
إعداد : سارة دالي
لقد تم استحضار مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” مرارًا وتَكرارًا ردًا على الأحداث الإقليمية الهامة، وربطت كوندوليزا رايس – وزيرة الخارجية الأميركية ومستشارة الأمن القومي في ولاية جورج بوش الابن – الأمرَ بحرب لبنان عام 2006، في حين أن اتفاقيات التطبيع التي أُطلق عليها اتفاقيات أبراهام عام 2020 أعادت إحياء المفهوم.
وقبل ذلك، كان كتاب شيمون بيريز – رئيس الوزراء الصهيوني عام 1993 – وأخيرًا، وليس آخرًا، كان “طوفان الأقصى” عام 2023، وما نتج عنه من سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، ومأزق إيران الإستراتيجي بعد تراجع “محور المقاومة” عام 2024، ومجيء ترامب في ولايته الثانية عام 2025، قد دفع من جديد المناقشات حول حقبة جديدة للمنطقة.
المنطقة – وفق الوصف الجديد الذي يُعاد إطلاقه بشكل دائم – في حالة تحول دائم وتغير مستمر، يُرجعه البعض إلى تاريخ طويل من التدخل الخارجي، يعود على الأقل إلى أواخر القرن الثامن عشر مع غزو نابليون مصر عام 1798. كان هذا التدخل المستمر من قِبل القوى العالمية الكبرى عاملًا مهمًا في تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.
وأكد الدكتور إياد أبو زنيط، المتحدث باسم حركة فتح، أن الكيان الصهيوني تجاوز القانون الدولي منذ اللحظة الأولى لحربه على قطاع غزة، منتقلا إلى منطق “شريعة الغاب” والقوة الغاشمة، مشيرا إلى أن العقيدة الأمنية الصهيونية تقوم على مبدأ “ما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد من القوة”، وهو ما يتم تطبيقه في القطاع.
واستنكر أبو زنيط “الصمم الدولي” تجاه تجاوزات الكيان الصهيوني، محملاً الولايات المتحدة المسؤولية عن هذا الوضع من خلال “احتضانها الأبوي” للكيان الصهيوني وتقديم كافة أشكال الدعم له، مشددا على أن حركة فتح والسلطة الفلسطينية استطاعتا استصدار قرارين لوقف الحرب على غزة، لكنهما قوبلا بالفيتو الأمريكي.
واعتبر أن الكيان الصهيوني وأمريكا يعيدان العالم إلى عصور ما قبل التاريخ في التعامل مع الإنسانية وترتيب الدول، ضاربين عرض الحائط بكل القوانين الدولية، محذرا من أن هذا السلوك سينعكس سلبًا على الكيان الصهيوني وأمريكا والدول المؤيدة لعدوان الكيان الصهيوني.
وأوضح أن الكيان الصهيوني، المدعوم بالسلاح النووي، يسعى ليكون “سيد الشرق الأوسط” ويتدخل في الشؤون الداخلية لدول مثل سوريا ولبنان والعراق، كل ذلك بدعم أمريكي.
وأدان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش استمرار الحصار المفروض على إدخال المساعدات للقطاع الفلسطيني، الأمر الذي وضع أكثر من مليوني شخص في حالة طوارئ إنسانية وصفها بأنها “تفوق الخيال”.
وقال غوتيريش “أشعر بالقلق من تصريحات المسؤولين الصهيونيين التي تشير إلى أن المساعدات تستخدم كوسيلة ضغط لتحقيق مكاسب عسكرية.. المساعدات ليست ورقة مساومة. إنها غير قابلة للتفاوض”.
وقال في نقاش بمجلس الأمن الدولي إن “الوعد بحل الدولتين معرض لخطر التلاشي تماما.. الإرادة السياسية لتحقيق هذا الهدف تبدو بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى”.
وحث غوتيريش الدول على تجاوز التصريحات وتحديد خطوات محددة لإحياء حل الدولتين. وقال إن “الوقت يمر، الوقت ينفد”. وحذر غوتيريش من أن الشرق الأوسط في مفترق طرق حرج.
فإلى أين يتجه الشرق الأوسط؟ وكيف ستتطور الأحداث فيه؟
كيف أعاد طوفان الأقصى تشكيل أولويات إقليمية جديدة؟، وماهي مسارات إخراج الشرق الأوسط من الحروب والصراعات الحالية؟
الكاتب الفلسطيني ، محمد عايش :
“الاعتداءات على سوريا ولبنان تؤكد أن الاحتلال الصهيوني يقوم بتغيير شامل للمنطقة”

يشير الكاتب الفلسطيني محمد عايش، إلى أن الاعتداءات الصهيونية اليومية على سوريا ولبنان، تؤكد أن الاحتلال الصهيوني يقوم بتغيير شامل للمنطقة بأكملها، وأن لديه مشروعا للتوسع يتضح بشكل أكبر يومياً، حيث يريد الكيان الصهيوني خلق مناطق نفوذ واسعة له في المنطقة برمتها، وهو ما يعني بالضرورة انتهاك سيادة الدول المجاورة والاعتداء على وجودها.
أبرز ملامح التوسع الصهيوني في المنطقة تجلت في المعلومات التي كشفتها جريدة «معاريف» الصهيونية، التي قالت إن الطيران الصهيوني رفض منح الإذن لطائرة أردنية كانت تقل الرئيس الفلسطيني محمود عباس نحو العاصمة السورية دمشق، واضطر الرئيس عباس للسفر براً من الأردن إلى سوريا، للقاء الرئيس أحمد الشرع، كما أن الصحيفة كشفت بذلك أيضا، أن القوات الصهيونية هي التي تسيطر على المجال الجوي لسوريا وتتحكم به. وفي التقرير العبري ذاته تكشف الصحيفة، أن وزارة الدفاع الأمريكية بدأت تقليص وجودها العسكري على الأراضي السورية، وهو ما يعني على الأغلب والأرجح أنه انسحاب أمريكي لصالح الوجود الصهيوني الذي بات واضحاً في جملة من المناطق السورية.
الكيان الصهيوني استغل سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر من العام الماضي وتوغل فوراً داخل الأراضي السورية، كما قام بتدمير ترسانة الأسلحة السورية، وسبق تلك الضربات الكبيرة التي تعرض لها حزب الله اللبناني، وما يزال، والتي تبين أن لا علاقة لها بمعركة السابع من أكتوبر ، حيث اعترفت أجهزة الأمن الصهيونية، بأن عمليتي “البيجر” و”الوكي توكي” كان يجري الإعداد لهما منذ سنوات، وإن التنفيذ تم عندما اكتملت الإعدادات، وهو ما يعني أن الضربة التي تلقاها حزب الله كانت ستحصل لا محالة، سواء شارك في الحرب، أم لم يُشارك، حيث كان يتم التخطيط لها صهيونياً منذ سنوات. هذه المعلومات تؤكد أنَّ الكيان الصهيوني لديه مشروع للتوسع والهيمنة في المنطقة، وأنَّ هذا المشروع يجري العمل عليه منذ سنوات، ولا علاقة له بالحرب الحالية على قطاع غزة، بل إن أغلب الظن أن هذه الحرب كانت ستحصل لا محالة في إطار مشروع التوسع الصهيوني في المنطقة.
الهيمنة الصهيونية على أجواء سوريا، والاعتداءات اليومية على لبنان واليمن ومواقع أخرى، يُضاف إلى ذلك القرار الصهيوني بضم الضفة الغربية، وعمليات التهويد المستمرة في القدس المحتلة، إلى جانب تجميد أي اتصالات سياسية مع السلطة، من أجل استئناف المفاوضات للحل النهائي.. كل هذا يؤكد أن المنطقة برمتها تتشكل من جديد، وأن الكيان الصهيوني يحاول أن يُشكل هذه المنطقة لصالحه، ويريد أن تقفز على الشعب الفلسطيني ولا تعتبر بوجوده.
خلاصة هذا المشهد، أن الكيان الصهيوني يقوم باستهداف المنطقة بأكملها، ويقوم بتغييرها، ويقوم بتدوير المنطقة لصالحه، وهذا يُشكل تهديداً مباشراً واستراتيجياً لدول المنطقة كافة، بما في ذلك الدول التي ترتبط باتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني، خاصة الأردن ومصر اللذين يواجهان التهديد الأكبر من هذا المشروع الصهيوني الذي يريد تهجير ملايين الفلسطينيين على حساب دول الجوار، كما أن دول التطبيع ليست بمنأى هي الأخرى عن التهديد الصهيوني الذي تواجهه المنطقة.
اللافت في ظل هذا التهديد أن العربَ صامتون يتفرجون، من دون أن يحركوا ساكناً، إذ حتى جامعة الدول العربية التي يُفترض أنها مؤسسة العمل العربي المشترك لا تزال خارج التغطية، ولا أثر لها أو وجود، كما أن المجموعة العربية في الأمم المتحدة لم تتحرك، ولا يبدو أن لها أي جهود في المنظمة الأممية من أجل مواجهة هذا التهديد الصهيوني.
الباحث هشام جعفر :
“التدخل الخارجي المكثف يشكل سمة مميزة لـ(الشرق الأوسط الجديد)”

يرى الباحث هشام جعفر، أن الشرق الأوسط الحديث شكّل، ولا يزال، تفاعلًا معقدًا بين ديناميكيات القوة التاريخية، والتدخلات الخارجية المستمرة، والأوضاع الداخلية. وقد أثّرت هذه العوامل على صعود وسقوط القوى الإقليمية والعالمية، وساهمت في الصراعات المستمرة، وعززت مشهدًا يتميز بتحالفات معقدة، وتأثير كبير للجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية.
لقد شهدت المنطقة تدخلات مستمرة من قوى داخل حدودها وخارجها؛ لقد تدخلت القوى العظمى باستمرار في شؤون دول الشرق الأوسط في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولا يزال هذا التدخل مستمرًا في هذا القرن، ومارس النظام الاقتصادي العالمي، الذي كان مدفوعًا في البداية بالرأسمالية التجارية والصناعية، ثم بالمالية، تأثيرًا كبيرًا على المنطقة. هذه التدخلات لا تنفي دور الهياكل الداخلية، لكنه تفاعل مركّب بين هذه العوامل جميعًا.
وعلى الرغم من تصاعد الحديث عن “شرق أوسط جديد”، لا تزال العديد من الديناميكيات الموروثة قائمة، مثل أوجه القصور في حقوق الإنسان، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون في الدول العربية. لا يزال الاستبداد طافحًا، وسوء توزيع الدخول والفرص والثروات متفشيًا، والخُلْف البَيِّن بين تطلعات الشعوب وبين سياسات الحكام ظاهرًا.
لا يزال التدخل الخارجي المكثف من القوى العالمية والإقليمية يشكل سمة مميزة لـ”الشرق الأوسط الجديد”. غالبًا ما تدعم هذه الجهات الخارجية مجموعات محلية مختلفة، مما يزيد من تعقيد الصراعات، حيث قد لا تتوافق مصالحها دائمًا مع مصالح عملائها.
لقد ساهم عدم الاستقرار الذي أعقب الانتفاضات العربية في نمو “دول فاشلة”، وصعود الجهات الفاعلة غير الحكومية المؤثرة. حيث تعمل هذه الجهات الفاعلة بقيود أقل، وأصبحت لاعبًا مهمًا، مما أدى إلى تغيير الديناميكيات الإقليمية بسرعة.
ويتميز الشرق الأوسط حاليًا بالعديد من السمات البارزة، بما في ذلك إعادةُ تنظيم إقليميةٌ كبيرة بعد فترة من الصراع المكثف كان عنوانه فلسطين، وسوريا. تتضمن إعادة التنظيم ظهور قوى محورية جديدة كالسعودية وتركيا، وتراجع أخرى كإيران، ولا تزال المنطقة تعاني من الصراعات الممتدة، والتأثير المستمر للجهات الفاعلة غير الحكومية، فضلًا عن إستراتيجيات القوى الخارجية المتغيرة. وفي حين أن هناك هيمنة عسكرية صهيونية واضحة؛ إلا أن هناك إجماعًا متزايدًا في المنطقة على ضرورة الحماية من التوسع والعدوان الصهيوني، في ظل استشعار كثير من الحكومات العربية خطرَه على الأمن القومي لبلدانهم.
“طوفان الأقصى أعاد تشكيل أولويات إقليمية جديدة”

ويضيف الباحث، أن “طوفان الأقصى” قد أعاد تشكيل الأولويات الإقليمية في الشرق الأوسط بشكل كبير، حيث قدم ديناميكيات جديدة، وغيّر حسابات مختلف الجهات الفاعلة. في حين أنه قد لا يعكس الاتجاهات السابقة تمامًا، إلا أنه أدى بالتأكيد إلى إعادة معايرة المصالح والنُهُج.
قبل “طوفان الأقصى”، كان هناك توجه واضح نحو تهميش القضية الفلسطينية في سعي الأطراف الإقليمية لتحقيق المصالح الوطنية والتنمية الاقتصادية. إن التركيز على التقارب الاقتصادي، والسياسات الخارجية غير الصراعية، أدّى إلى تأجيل أو إعادة تعريف قضايا مثل الحقوق الفلسطينية.
على سبيل المثال، استمرت اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم اتفاقيات أبراهام عام 2020 حتى دون حلّ للصراع الصهيوني الفلسطيني. وإن مفهوم الاستقرار الذي تمّ الترويج له في ذلك الوقت كان يتجاوز تطلعات الشعب الفلسطيني؛ إلا أن “طوفان الأقصى” أعاد التأكيد بشكل كبير على أهمية القضية الفلسطينية وترابطها بالمنطقة.
إن مستقبل التطبيع بين الحكومات العربية والكيان الصهيوني أصبح الآن مرتبطًا بشكل أوثق بوقف العدوان على غزة، وإقامة مسار موثوق نحو الدولة الفلسطينية. لقد أدى الغضب الشعبي الشديد، والتركيز المتزايد على القضية الفلسطينية، إلى زيادة التكلفة الدبلوماسية للتطبيع.
أصبحت شرعية الأنظمة العربية الآن أكثر تأثرًا بموقفها من القضية الفلسطينية. لقد زاد الوعي العام، حيث أدرك المواطنون مسؤولية حكوماتهم ليس فقط عن سوء معيشتهم، بل أيضًا عن نتائج القضية الفلسطينية. وقد أدَّى هذا إلى وضع أصبحت فيه الحكومات العربية محاصرة بين مصالحِها الذاتية (بما في ذلك الحفاظ على السلطة)، ومشاعر شعوبها تجاه فلسطين.
علاوة على ذلك، أصبح هناك رأي عام عربي وإسلامي قوي يدعم فلسطين ويرفض التطبيع على حساب الحقوق الفلسطينية. في حين أن قدرة الرأي العام على إملاء السياسة بشكل مباشر تظل مقيدة بالمخاوف الاجتماعية والاقتصادية ونقص الحرية؛ ومع ذلك، فإنه يشكل عاملًا مهمًا يجب على الحكومات أن تأخذه في الاعتبار.
إن إمكانية تراكم الغضب الشعبي بشأن القضية الفلسطينية، على غرار الانتفاضات العربية، تشكل مصدر قلق للحكومات العربية.
خلاصة القول: سوف يتشكّل مستقبل التطبيع العربي الصهيوني من خلال التفاعل بين المصالح الإستراتيجية المستمرة للدول العربية في مجالات مثل الأمن، والاقتصاد، وعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة كقضية مركزية، والديناميكيات المعقدة للعلاقات السعودية الإيرانية ومنظورهما المشترك بشأن الصراع الصهيوني الفلسطيني، والاستقرار الإقليمي الأوسع، وتأثير المشاعر العامة.
سلط الصراع الضوء على الترابط بين القضايا الإقليمية، مما يجعل من الصعب معالجتها بمعزل عن بعضها البعض. لقد أثرت الإبادة الجماعية في غزة بشكل مباشر على الأمن القومي المصري، وهددت اتفاقية السلام، مما يؤكد الحاجة إلى حل. لقد اكتسبت الأبعاد الإقليمية العربية والإسلامية أهمية كبيرة، مما يوفر غطاءً ودعمًا محتملين لمعالجة مثل هذه القضايا المترابطة.
في حين تظل المصالح الوطنية هي العامل الأساسي الذي يحدد السياسة الخارجية، فقد توسع تعريفها ليشمل موضوعات كانت مهمشة في السابق.
التركيز على التقارب والتكامل الاقتصادي كان اتجاهًا مهمًا في السنوات التي سبقت “طوفان الأقصى”، ولقد تم اختباره معه. كشف الصراع عن هشاشة مثل هذه التحالفات، إذ يمكن بسهولة تعطيلها من قبل جهات غير حكومية حتى لو كانت ضعيفة.
كما أبرز التناقضات المتأصلة في الأجندات السياسية. على سبيل المثال، التطبيع بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني يخلق تناقضًا مع إيران التي تعارض وجود الكيان الصهيوني. كما أدت الحرب في غزة إلى تعطيل خطط الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، مما سلط الضوء على كيفية تأثير عدم الاستقرار الإقليمي على تقويض الأهداف الاقتصادية.
وعلى الرغم من ضعف شبكة وكلاء إيران في المنطقة؛ فإن هذه الجماعات لا تزال تملك عناصر قوة وقدرات متعددة، مما قد يؤدي إلى زيادة نفوذها المحلي حتى في ظل تراجع دورها الإقليمي.
أكد هذا على ضرورة معالجة الصراعات والحروب الأهلية المستمرة في البلدان التي تعمل فيها هذه الجماعات لتحقيق الاستقرار الإقليمي الشامل.
في الختام، في حين أن القضية الفلسطينية ربما تكون قد تم تهميشها في حقبة ما قبل “طوفان الأقصى” من “الدبلوماسية الإقليمية الواقعية”، أعاد الصراع الأخير تأكيد أهميتها المحورية. هي الآن تمثل عدسةً حاسمة تُرى من خلالها الديناميكيات الإقليمية، بما في ذلك جهود التطبيع واستقرار الأنظمة العربية، والعلاقات الإقليمية، إن ترابط القضية الفلسطينية مع الاستقرار الإقليمي الأوسع، والمشاعر القوية لدى الشعوب العربية والإسلامية، يضمنان بقاءها عاملًا حاسمًا في تشكيل “الشرق الأوسط الجديد”.
الكاتب عمرو حمزاوي :
“هذه مسارات إخراج الشرق الأوسط من الحروب والصراعات”

يؤكد الكاتب عمرو حمزاو ي، إلى أن افتقار الشرق الأوسط للدبلوماسية متعددة الأطراف والتنسيق الأمني لمنع النزاعات وحلها قد خلق اعتماداً طويل الأمد في المنطقة على الجهود الدولية المؤقتة للتفاوض على ترتيبات وقف إطلاق النار والتسويات السلمية لإنهاء الحروب المستمرة بين الدول والمواجهات العسكرية بين الدول والجهات المسلحة غير الحكومية. وفي العديد من الحالات، فشلت هذه الجهود في تهيئة الظروف لتسويات سلمية دائمة.. لكي تنجح جهود صنع السلام، يجب أن تسعى إليها القوى الدولية بعزم وإصرار.
وقد نجحت بعض السياسات البريطانية والأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين ـ مثل اتفاقيات الهدنة بين الطرفين الصهيوني والفلسطيني في حرب عام 1948، والتي تم الالتزام بها في الغالب حتى اندلاع حرب عام 1967. وفي النصف الثاني من القرن، نجحت بعض المبادرات التي قادتها الولايات المتحدة ـ بما في ذلك الوساطة الناجحة في مفاوضات السلام بين الكيان الصهيوني ومصر في سبعينيات القرن الماضي، وبين الكيان الصهيوني والأردن في تسعينياته، بالإضافة إلى المشاركة الأمريكية الأقل نجاحاً في عملية أوسلو بين الصهيونيين والفلسطينيين. لكن بخلاف هذه الأمثلة القليلة، كثيراً ما تراجعت القوى الدولية عن التفاوض على اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط، أو ازداد ترددها مع مرور الوقت في استثمار أدواتها الدبلوماسية والسياسية لتنفيذها بحسن نية.
لأكثر من قرن، كان أي تنسيق إقليمي يُحقق يتم في سياق هيمنة قوة خارجية (مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة) أو أحيانًا في سياق التنافس بين القوى العالمية (خاصةً خلال الحرب الباردة). لم تُسهم هذه الترتيبات في حل النزاعات الإقليمية، وشعر الكثيرون في الشرق الأوسط بأنها تحمي الظلم وعدم المساواة القائمين وتُفاقمهما بشدة. كما بدا أنها حالت دون ظهور ترتيبات بديلة متعددة الأطراف.
كما أن الجهود الدولية لصنع السلام في الشرق الأوسط جرت في الغالب في بيئة أبدت فيها الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، حرفياً، عدم استعدادها للتفاوض مع بعضها البعض، أو حتى الاعتراف بوجود بعضها البعض. الوضع اليوم أكثر صعوبة. فثلاث “دول” مجاورة للعالم العربي، “الكيان الصهيوني” وإيران وتركيا، ليست مجرد “دول” متنافسة تنفذ سياسات تقوض الاستقرار والأمن الإقليميين، بل تسعى كل منها أيضاً إلى شكل من أشكال الهيمنة الإقليمية. اتخذ التنافس الثلاثي بين الكيان الصهيوني وإيران وتركيا أشكالاً خطيرة للغاية، وأدى إلى نوبات من الحروب المفتوحة في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط. وحتى عندما أظهرت هذه الدول ـ وحلفاؤها من غير الدول ـ بعض ضبط النفس، دفعت شعوب العديد من دول المنطقة ثمناً باهظاً.
يمكن للدول العربية أن تتخذ خطوات غير مسبوقة ـ ابتكار آليات لتنحية التنافسات قصيرة المدى جانبًا من أجل إعادة الإعمار الإقليمي على المدى الطويل؛ وصياغة استراتيجية مشتركة.
قامت “دول” الشرق الأوسط غير العربية ـ “الكيان الصهيوني” وإيران وتركيا ـ بمحاولات سابقة لوضع ترتيبات أمنية جماعية. لكن هذه المحاولات إما باءت بالفشل، مثل حلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي، أو تذبذبت بسبب التحولات الجذرية في السياسة الداخلية والمشاعر الشعبية ـ على سبيل المثال، أنهت الثورة الإسلامية في إيران التنسيق الأمني القائم منذ فترة طويلة بين نظام محمد رضا بهلوي والكيان الصهيوني. أدى صعود الإسلاميين إلى السلطة السياسية في تركيا منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، وتأكيد سيطرتهم على السياسات الخارجية والدفاعية، إلى استبدال التعاون بين تركيا والكيان الصهيوني بالخلاف. كذلك، لطالما انخرطت إيران وتركيا في سباقٍ على مناطق النفوذ في سوريا والعراق، مما أدى في السنوات الأخيرة إلى توترات بين البلدين.
يمكن للدول العربية المؤثرة أن تشق طريقًا مختلفًا: العمل معًا بطريقة متعددة الأطراف ونشطة ومنسقة. على المدى الطويل، ستستفيد دول الشرق الأوسط من هيئة دائمة تركز على الأمن الإقليمي. ولكن في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، يمكن للدول العربية أن تتخذ خطوات غير مسبوقة ـ ابتكار آليات لتنحية التنافسات قصيرة المدى جانبًا من أجل إعادة الإعمار الإقليمي على المدى الطويل؛ وصياغة استراتيجية مشتركة؛ وتقديم بدائل مجدية للصهيونيين والفلسطينيين؛ وصياغة سياسات لمنع الصراعات واحتوائها، مصممة لتحفيز تغيير سلوك السياسة الخارجية، ليس فقط الكيان للصهيوني، بل أيضًا لإيران، وبدرجة أقل لتركيا ـ وحتى في هذه الحالة، لن تُحدث هذه الخطوات أي مفعول سحري بين عشية وضحاها.
لا يوجد في الشرق الأوسط ما يُعادل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. تقتصر ترتيبات الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية على تلك الدول، وقد ثبت عدم فعاليتها إلى حد كبير في منع الصراعات أو احتواء الحروب الإقليمية، حتى بين الدول العربية: الغزو العراقي للكويت مثالٌ قديم على ذلك؛ ومن الأمثلة الأحدث النزاع الحدودي المستمر بين لبنان وسوريا.
ولكي ينجح هذا الجهد، يجب أن يُواصل، على الأرجح بطريقة رسمية. يمكن لائتلاف على غرار إعلان دمشق يهدف إلى تعزيز المصالح الأمنية طويلة الأجل للعرب وجيرانهم في الشرق الأوسط بطريقة يمكنها التفاعل مع القوى الدولية (دون الاعتماد عليها) أن يكون فعالا. هذا الاقتراح ليس بديلاً عن إطار لحوار أمني إقليمي. لكن نهجًا عربيًا منسقًا قد يسمح بظهور مثل هذا الإطار من خلال مبادرة إقليمية بدلامن أن تدفعه جهات خارجية لديها مشاكل قصيرة الأجل ترغب في إدارتها أو خصم أو حليف محدد تهتم به.
يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية، مثل مصر وقطر والمملكة العربية السعودية، أن تلعب دورًا بناءً في إقناع حماس بالعودة إلى طاولة المفاوضات وقبول أنها لن تكون جزءًا من حكومة غزة في المستقبل والابتعاد عن الردود العسكرية على الضربات الصهيونية.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة وحدها هي التي يمكنها دفع الكيان الصهيوني إلى وقف التصعيد الحالي والتفاوض على تمديد ترتيبات وقف إطلاق النار مع حماس. أما بالنسبة للحوثيين، فبينما يمكن لحملة عسكرية أمريكية مستمرة ضدهم أن تحيّد في النهاية التهديد الذي يشكلونه على الأمن في البحر الأحمر وعلى الكيان الصهيوني، فإن إيران هي التي يمكنها إقناعهم بتغيير سلوكهم. من هنا أهمية جولات التفاوض الدائرة اليوم بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية. في الشرق الأوسط اليوم، يقف العرب كالوسطاء الحقيقيين في الصراعات وصانعي سلام فاعلين وعليهم من ثم أن يستغلوا ذلك دفاعا عن مصالحهم الفردية والجماعية وسعيا إلى استقرار منطقة طالت حروبها وصراعاتها.