في سابقة تاريخية مهمّة
حمل إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال ضد رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت في طياته رسائل عدة، تعكس تفاقم عزلة الكيان الصهيوني وتراجع شرعيته دوليا بسبب سلوكه في الحرب على غزة.
وقالت إن هناك “أسبابا منطقية” للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
وأضافت المحكمة في بيان أن “هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات على السكان المدنيين”.
وقالت إن جرائم الحرب المنسوبة إلى نتنياهو وغالانت تشمل استخدام التجويع سلاح حرب، كما تشمل جرائم ضد الإنسانية والمتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية.
ومثّل القرار صفعة مؤلمة للكيان الصهيوني، الذي يعيش حالة من الصدمة بسبب ما يحمله القرار من اتهامات للجيش بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتبدي خشيتها من تداعياته ليشمل مزيدا من الشخصيات السياسية والعسكرية وملاحقة مئات الضباط والجنود الذين رُفعت ضدهم دعاوى في محاكمة غربية.
وحسب قراءات محللين، فإن القرار ستكون له تداعيات سلبية على الكيان الصهيوني في مختلف المجالات ولن يقتصر الأمر على إصدار مزيد من مذكرات الاعتقال، بل سيشمل أيضا حظر توريد أسلحة لها وفرض عقوبات اقتصادية حتى على القطاع الخاص.
رحبت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم الخميس بإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وقالت “حماس” في بيان “إن هذه الخطوة التي حاولت الإدارة الأميركية المتواطئة مع جرائم الحرب الصهيونية تعطيلها لأشهر عبر إرهاب المحكمة وقضاتها ومحاولة ثنيها عن أداء واجبها في محاسبة الاحتلال على جرائمه المتواصلة في قطاع غزة تشكل سابقة تاريخية مهمة”.
كما اعتبرتها “تصحيحا لمسار طويل من الظلم التاريخي للشعب الفلسطيني، وحالة التغاضي المريب عن انتهاكات بشعة يتعرض لها طوال 76 عاما من الاحتلال الفاشي”، وفق البيان.
ودعت حماس المحكمة الجنائية الدولية إلى “توسيع دائرة استهدافها بمحاسبة كافة قادة الاحتلال المجرمين ووزرائه وضباطه الفاشيين الذين أوغلوا في دماء الشعب الفلسطيني ومارسوا بحقه أبشع عمليات القتل والإرهاب والتجويع التي عرفها التاريخ الحديث”.
كما دعت كافة الدول حول العالم “للتعاون مع المحكمة في جلب مجرمي الحرب الصهاينة، نتنياهو وغالانت، والعمل فورا لوقف جرائم الإبادة بحق المدنيين العزّل في قطاع غزة”، وفقا للبيان.
ورحبت دول ومنظمات وحركات عربية بإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت، بينما شهد الأمر تباينا أوروبيا بين الالتزام القضائي والحساسية السياسية.
وبموجب قرار المحكمة التي لا تملك أفراد شرطة لتنفيذه، أصبحت الدول الأعضاء فيها ملزمة قانونا بتنفيذ الأمر الصادر أمس الخميس، باعتقال نتنياهو وغالانت إذا دخلا أراضيها، وتسليمهما إلى الجنائية الدولية لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقيهما، وذلك بتهم تتعلق بـ”ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” خلال حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة.
وبدعم أميركي يرتكب الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر 2023، إبادة جماعية في غزة خلفت أكثر من 148 ألفا بين شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
ويواصل الكيان الصهيوني مجازره متجاهلا قرار مجلس الأمن الدولي بإنهائها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.
هل يواجه الكيان الصهيوني عزلة دولية بعد أمر اعتقال نتنياهو وغالانت؟، ما هي خيارات تل أبيب الآن بعد قرار اعتقال نتنياهو؟، ما الذي يعنيه قرار الجنائية الدولية ضد نتنياهو؟ وما القادم؟.
المحلل سياسي والخبير في الشؤون الصهيونية ، إيهاب جبارين :
“ما هي خيارات تل أبيب الآن بعد قرار اعتقال نتنياهو؟”
أكد المحلل سياسي والخبير في الشؤون الصهيونية، إيهاب جبارين، أن المحكمة الدولية تدافع عن حقها في النظر في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية؛ كون فلسطين عضوًا في المحكمة منذ عام 2015.
في السياق الدولي، هناك انقسام بشأن هذه المذكرة. فالولايات المتحدة رفضت بشدة الخطوة، معتبرةً أنها تضع الكيان الصهيوني على قدم المساواة مع حماس، بينما تدعو دول أخرى، مثل بريطانيا إلى الالتزام بالقانون الدّولي، واحترام استقلال القضاء.
حتى الآن، القرار النهائي بشأن تنفيذ المذكرة لا يزال غير واضح، في ظلّ محاولات من قبل الكيان الصهيوني وحلفائه لتعطيل الإجراءات القانونية.
مصدومًا، محبطًا ومرتبكًا يخرج نتنياهو مرتديًا ربطة عنق زرقاء، يتحدث بالعبريّة، يخاطب مواطني الكيان الصهيوني، يحاول أن يلعب دور الضحية، موظفًا الأزمة للالتفاف على النكبات المتتالية التي تحيط به في الدّاخل السياسي الصهيوني، من تجنيد الحريديم، وملفاته الجنائيّة، إلى تمرير ميزانية في ظل أزمة اقتصادية، وطبعًا وصولًا إلى احتجاجات إعادة الأسرى.
وهذا كلّه في ظل وجود جبهتين بلا خطة خروج وأهداف سياسية معلنة وواضحة، فيحاول توظيف هذه الأزمة ليلعب – ما يجيده هو وكيانه – دورَ الضحيّة والاستهداف الشخصي، متلاعبًا بالوقائع، فالاستهداف لم يكن لأن الكيان الصهيوني يحاول الدفاع عن نفسه، متناسيًا أكثر من 50 ألف شهيد جلّهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل، فيما تقرّ حكومته منذ يومها الأول بأنّ الجوع والعطش هما وسيلة سامية لتحقيق أهداف الحرب، فتأتي هذه المذكرة لتذكّر دبلوماسية العالم بأن هناك مجازر ترتكب، وبأن هناك إبادة وجرائم حرب في غزتنا.
ومن قبل نتنياهو انتفض الكيان الصهيوني، من أقصى يساره حتى أعتى يمينه، فعلى مدار عام كامل لم يكن هناك شريف فيه غير “عوفر كسيف”، عضو الكنيست اليساري الذي سمّى الكيان الصهيوني باسمه، “مرتكب جرائم حرب”، وعلى هذا تحديدًا عاقبته لجنة التأديب مؤخرًا.
فأكثر ما يزعج الكيان الصهيوني، أنه أضحى يحاكم في عقر ساميّته، ومن المحكمة التي أنشئت لكي تحقّ الحق والعدالة لأسلافهم لما ارتكبته النازية من مجازر في حقهم، فمحاسبة الذات أكثر ما يؤلم، فاليوم ذات المحكمة تحاكم الكيان الصهيوني، دولة اليهود، لذات الجرائم والاستحقاقات الجنائيّة في حق أسلافهم تحديدًا. فلا حضيض ولا مذلةً ولا إهانة أكبر.
ومن ناحية أخرى، وبالذّات في ظلّ العزلة الدّبلوماسيّة التي دخلت إليها الكيان الصهيوني في دولاب يعيدها إلى سنوات الثّمانينيات، خصوصًا في ظلّ حاجتها للعالم والأسواق العالميّة والعولمة، كي تحاول الصمود في ظلّ الأضرار والاضطرابات الاقتصادية المنوطة بالحرب، تجد نفسها في معزل دبلوماسيّ، بل أكثر، رقبتها باتت أكثر تعلّقًا بالولايات المتحدة، وليست أيّة ولايات متحدة بل ولايات ترامب المتحدة.
فعلى رغم رومانسيّة علاقة هذه الإدارة مع حكومة تل أبيب، فإنّ تل أبيب تعلم جيدًا أنّ ”Don’t ترامب” تختلف كليًّا عن “Don’t بايدن”، وبالتالي وتحديدًا في ظلّ ظلمة دبلوماسيّة كالتي تخيّم فوق رأس تل أبيب، باتت مساحة المناورة أصغر فأصغر أمام واشنطن، خاصة أنّ الابتزاز الأهمّ لنتنياهو للمكتب البيضاويّ الأخير كان يتواجد في مرمى قدرة الكيان الصهيوني على بناء تحالفات يناور بها أمام واشنطن.
“هذا المنحنى يبقي أمام الكيان الصهيوني بابين لا ثالث لهما”
الباب الأول : أفرز نتنياهو كعقبة أمام مسمى الكيان الصهيوني الأسمى، الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تغنّى بها، فهذا القرار يشكّك بديمقراطية الكيان الصهيوني قبل أي شيء آخر، كما يشكّك باستقلالية القضاء الصهيوني وقدرته على محاسبة ذاتية منصفة.
فعلى مدى سنوات أغمض الغرب عيونه عن أعتى ممارسات الكيان الصهيوني الاحتلاليّة، فقط لكونها تمارس هذا الاحتلال تحت عباءة الديمقراطية والقيم الليبرالية، ولكن الآن وبعد أن زجّت المحكمة اسم نتنياهو جنبًا إلى جنب مع البشير، جد الكيان الصهيوني نفسه في اختبار حقيقي، وعليها أن تقرر من تفضل؟ سمعة الكيان الصهيوني أم سمعة رئيس حكومتها الذي جلب لها العار؟
هذه النقطة تحديدًا هي اختبار للدولة العميقة في الكيان الصهيوني، ومدى إحكام وسيطرة نتنياهو عليها، وهنا نستطيع القول إنّ هذه المجريات أعادت الكيان الصهيوني إلى المربع الأول، إذا أرادت الانتصار في الحرب، عليها الانتصار على نتنياهو، الأمر الذي تجاوزه نتنياهو حتى وصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
والآن مرة أخرى توضع الدولة العميقة في الكيان الصهيوني في هذا الاختبار المصيري : إمّا أن تنتصر هي، وإمّا أن ينتصر هو، ومن بعده فليكن الطوفان.
أما الباب الثاني، فهو يعني الجزم بأنّ الكيان الصهيوني بات دولة الرجل الواحد، وهنا يتوجب على الساحر الدبلوماسي بأن يمارس جهوده السابقة والتي قد أفلح بها مرات كثيرة بأن يخرج الكيان الصهيوني من عزلته الدبلوماسية ضرب المحكمة الدولية بجهود استخباراتية قبل الدبلوماسية. وما ملف كريم خان إلا مجرد مقدمة، لما يجهز له الكيان الصهيوني لكل من يقف أمامه، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات أو حتى دولًا، تمامًا كما الدول المارقة الجانحة.
وهنا لن يكون اختبارًا لنصر شمشون الكيان الصهيوني فحسب، إنما هو اختبار لكل القيم الدوليّة والديمقراطية، بل وسيكون مقياسًا ومعيارًا من معايير غزة الكاشفة لمواثيق حقوق الإنسان التي ضاقت على الفلسطيني.
وعلى العالم أن يحدد ماهيّة تعريف حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، بالأخص أنّ كل ممارساتها وكل ما ارتكتبه يصنّف اليوم بـ “جرائم حرب” وَفقًا لاعتراف محكمته الدولية.
جملة التصريحات الصهيونية لم تبقِ أمام الخيارين الكثير من التخبط، فلم يبقَ إلا أن يعلن الكيان الصهيوني الحرب على لاهاي، وضرورة الاستيطان فيها بعد محوها كإجراء عقابي لكل من يجرؤ على الوقوف أمام هذا الكيان.
الباحث في الشأن الصهيوني حلمي موسى :
“الكيان الصهيوني انصدم من الدول التي أعلنت التزامها بالقانون الدولي وقرار المحكمة”
يقول الباحث في الشأن الصهيوني حلمي موسى، أن الكيان الصهيوني توقع من خلال حملات قضائية وسياسية وإعلامية منع صدور مذكرات التوقيف عبر ترهيب لقضاة المحكمة وعبر استخدام نفوذ أميركا، ولم تكتفِ بذلك، بل إنها وفق جهات مختلفة سعت إلى ترهيب وابتزاز المدعي العام حتى عبر ما بات يُعرَف بـ”القضية الجنسية” التي تم اتهام كريم خان بارتكابها. وهذه القضية كانت بين مبررات نتنياهو لرفض المذكرات باعتبارها صادرة عن جهة “فاسدة”.
غير أن جرأة المحكمة تمثلت في السابق بتوجيهها إنذارا حتى لأعضاء كونغرس أميركي اتهمتهم بالتطاول على العدالة الدولية، كما أن خان نفسه وفي أول تعليق له بعد صدور مذكرات الاعتقال، أعلن أن المحكمة تواصل التحقيق في جرائم حرب تُرتكب في أراضي “دولة فلسطين” بالضفة الغربية والقدس الشرقية، إضافة إلى قطاع غزة.
لكن صدمة الكيان الصهيوني الكبرى كانت من مواقف دول العالم، فمن بين أكثر من 120 دولة موقّعة ومصادقة على ميثاق روما بشأن المحكمة الجنائية الدولية دولتان فقط، هنغاريا والأرجنتين، أعلنتا أنهما لن تلتزما بالقرار، وسارعت أغلب دول العالم، خصوصا في أوروبا إلى إعلان التزامها بالقانون الدولي وقرار المحكمة.
وكانت أول نتيجة لذلك إبطال زيارة مقررة لوزير الخارجية الهولندي إلى الكيان الصهيوني، والذي كان أول شخصية أوروبية ترحّب بقرار المحكمة وتعلن التزامها بتنفيذه، وبعد ذلك توالت المواقف الأوروبية من منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل إلى وزراء خارجية أيرلندا وإسبانيا وسواها.
“قرار المحكمة عمليا ينزع عن الكيان الصهيوني صفة الدولة الديمقراطية الملتزمة بالقانون الدولي”
شكّل إصدار مذكرات التوقيف إقرارا بفشل الكيان الصهيوني في منع الملاحقة القضائية لقادتها، ما يفتح الباب واسعا أمام ملاحقة قضائية لكل المشاركين من رعاياها في جرائم الحرب الموصوفة، فالقرار من الناحية الإعلامية والسياسية يضع راية سوداء فوق الكيان الصهيوني وقادته وسياساته، ويعلن بداية مرحلة نهاية إفلات الكيان الصهيوني من العقاب، وواضح أن هذا القرار كذلك يضع الكيان الصهيوني على السكة ذاتها التي قادت في النهاية إلى تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وبصرف النظر عن قناعة القيادة الصهيونية بأن العالم كله لا يهمها طالما أن أميركا تقف إلى جانبها، فإن الكيان الصهيوني لا يعيش داخل أميركا وهي مضطرة لأن تأخذ مواقف دول العالم بعين الاعتبار. لكن القرار يعني أيضا فشل أميركا في ترهيب وابتزاز المحكمة وإجبارها على إبقاء الكيان الصهيوني بعيدا عن سطوة القانون الدولي، وبهذا المعنى فإن أميركا لم تعد الدرع الواقي للكيان الصهيوني أمام الجهاز القضائي الدولي، وربما أيضا في الحلبة السياسية الدولية.
كما أن قرار المحكمة عمليا ينزع عن الكيان الصهيوني صفة الدولة الديمقراطية الملتزمة بالقانون الدولي، إذ إن القرار في جوهره يعني عدم ثقة الجهاز القضائي الدولي باستقلالية وعدالة الجهاز القضائي الصهيوني، لأن صلاحية المحكمة الجنائية الدولية تبدأ في ظل الافتقار للعدالة المحلية، وهذا بحد ذاته يفقد الكيان الصهيوني ادعاءه الخالد بأنه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، ويعيد تصنيفه ضمن الدكتاتوريات والأنظمة العنصرية والرجعية.
يتخبط الكيان الصهيوني حاليا في كيفية مواجهة مذكرتي الاعتقال، وتخشى أكثر من ذلك أن تشكّل مقدمة لمذكرات اعتقال سرية تطال شخصيات سياسية وعسكرية لعبت أدوارا في ارتكاب الجرائم الموصوفة أو في التحريض على ارتكابها. ومعلوم أن وسائل الإعلام الالكيان الصهيونيية التي نشرت تصريحات ومواقف عنصرية، وتعاملت مع الفلسطينيين في غزة وكأنهم “حيوانات”، شكّلت أساسا قويا لتوجيه الاتهامات ولتوجيهها لاحقا بحق ساسة آخرين، كما أن الأفعال الإجرامية المتواصلة طوال أكثر من عام في غزة وفرت الكثير من القرائن ضد الكثير من العسكريين.
“قرارات المحكمة قد تكون بداية لاستقطاب عالمي جديد يضعف مكانة أميركا في العالم”
وثمة في الكيان الصهيوني مَن يطالب بالتعامل بحذر مع قرارات المحكمة خشية أن يقود تجاهلها إلى عواقب، بينها توسيع نطاق حظر تصدير أو استيراد الأسلحة منها وإليها، والأمر لا يتعلق فقط بصادرات الأسلحة إذ ربما يمتد لأنماط من المقاطعة الاقتصادية، وعدا ذلك من المؤكد أن القرار يشكّل إحراجا كبيرا، خصوصا للدول العربية التي أقامت سلاما مع الكيان الصهيوني أو دخلت في اتفاقيات أبراهام للتطبيع معها.
ومع ذلك، فإن اليمين الصهيوني الحاكم يتصرف بعنجهية متزايدة، خصوصا بعد انتخاب ترامب، الذي أبدى احتقاره للمؤسسات الدولية. لكن ميل أميركا لإبقاء على زعامتها الدولية يقتضي منها أخذ العالم بنظر الاعتبار، خصوصا بعد عجزها عن الفصل بين أوروبا الغربية وكل من الصين وروسيا في مسألة جرائم الحرب الصهيونية.
وأوضح أن المواقف التي أبدتها أغلب دول أوروبا الغربية تشهد على أن نزالا ليس ضعيفا سيبدأ من الآن فصاعدا في كل ما يتعلق بالكيان الصهيوني، وبمعنى من المعاني إذا كان طوفان الأقصى قد أظهر أن الكيان الصهيوني بات بحاجة إلى حماية أميركية وغربية، فإن قرار المحكمة بيّن أن الكيان الصهيوني غدى عبئا معنويا وليس ذخرا إستراتيجيا.
وفي الجهة المقابلة يثبت إصدار مذكرتي الاعتقال أن أميركا التي اندفعت بكل قوة لحماية الكيان الصهيوني من هذه المحكمة أخفقت في هذه المهمة، وهذا يدفع بعض العقلانيين في الكيان الصهيوني للتشكيك بمنهج الاعتماد الكلي فقط على أميركا في كل المجالات.
وحتى في نظر من يؤمنون أن بوسع الكيان الصهيوني فعل كل ما يريد يزداد الشك في ذلك، خصوصا بعد هذا العجز الأميركي، والكل سينتظر ليس ما سيفعله الكيان الصهيوني وإنما ما ستفعله أميركا التي تهدد المحكمة بالويل والثبور، وهذا ما يستجلب مواقف من الدول التي أعلنت تأييدها للمحكمة وللقضاء المستقل ولمنهج المحاسبة، وعدم الإفلات من العقاب.
وليس مستبعدا أن تشكّل قرارات هذه المحكمة بداية لاستقطاب عالمي جديد يضعف مكانة أميركا في العالم إذا لم تسارع لتدارك الوضع والتقرب من حلفائها ومن دول لعالم.
وفي كل حال ليس للمحكمة الجنائية الدولية قوات يمكنها جلب واعتقال نتنياهو وغالانت وأي من مجرمي الحرب الصهيونيين الآخرين، لكن هناك التزام أخلاقي من الدول الموقعة على ميثاق روما بتنفيذ قرارات المحكمة، وهذا يقود إما إلى تقليص حركة نتنياهو والصهيونيين الدولية، وإما إلى تماديهم في العدوان واقتراف الجرائم إلى حين ظهور موازين قوى مختلفة. ومع ذلك بات واضحا أكثر من أي وقت مضى أن الكيان الصهيوني يتجه بسرعة نحو مصير شبه محتوم، وهو مصير نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا.. فعلا على نفسها وأهلها جنت براقش.
المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية ، لويس مورينو أوكامبو :
“على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية الدولية”
دعا المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، الدول العربية إلى مناشدة الولايات المتحدة عدم تهديد المحكمة أو تعطيل عملها، وذلك بعد إصدارها مذكرات اعتقال بحق مسؤولين صهيونيين.
وأكد أوكامبو في مقابلة مع الجزيرة أن إصدار مذكرات الاعتقال يمثل “لحظة تحول” في القضية الفلسطينية، موضحا أن 3 قضاة مستقلين استغرقوا أشهرا للنظر في القضية، وسمحوا لأكثر من 19 دولة بتقديم أدلتها.
وأشار إلى أن المذكرات شملت أحد قادة حماس، الذي لم يُعرف مصيره بعد، إضافة إلى رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، مؤكدا أن القضاة رفضوا تبريرات الكيان الصهيوني لمنع إصدار المذكرات.
ولفت أوكامبو إلى أن قضاة المحكمة الثلاثة أكدوا وجود جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، داعيا دولا مثل السعودية ومصر والأردن وقطر إلى التحدث مع واشنطن وإقناعها بعدم مهاجمة المحكمة.
واستشهد المدعي العام السابق بتصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن المتكررة حول ضرورة احترام الكيان الصهيوني للقانون الدولي، قائلا: “عندما يقوم صديق لك بانتهاك القانون، عليك أن تقرر أن القانون فوق الجميع”.
وحول التهديدات الأميركية المحتملة بفرض عقوبات على أعضاء المحكمة، سواء كانوا قضاة أم مدعين عامين، قال أوكامبو “إنه غير متأكد من إقدام إدارة بايدن أو حتى دونالد ترامب على مثل هذه الخطوة”.
وأضاف أنه يجب مطالبة الولايات المتحدة بعدم معاقبة المحكمة، خاصة أن بايدن نفسه اعترف على مدار عام كامل بجريمة التجويع، وكان يتوسل للكيان الصهيوني لتوفير الطعام والغذاء للفلسطينيين، مشددا على أن هذه جريمة حرب بلا أدنى شك.
وفيما يتعلق بالعدالة للضحايا في غزة، أكد أوكامبو أن تحقيقها يتطلب من الجميع القيام بدوره، موضحا أن المدعي العام قدم القضية أمام القضاة الذين أدوا واجبهم وقرروا أن هذه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وأكد على أن الأمر متروك الآن للدول الموقعة على النظام الأساسي للمحكمة، داعيا حتى الدول غير الموقعة على ميثاق المحكمة إلى العمل في هذا الاتجاه، مشددا على أن العدالة تتطلب نشاطا وعملا من الأفراد والدول لضمان تنفيذ أوامر المحكمة.
الباحث في “مركز التقدم العربي للسياسات” والمختص بالشؤون الصهيونية ، أمير مخول :
“قرار الجنائية الدولية يشكل صفعة مؤلمة للكيان الصهيوني”
من ناحيته، يرى أمير مخول الباحث في “مركز التقدم العربي للسياسات” والمختص بالشؤون الصهيونية- أن قرار الجنائية الدولية يشكل صفعة مؤلمة للكيان الصهيوني التي صدمت منه وتخشى أن تتوسع دائرة أوامر الاعتقالات لتطال المزيد من الشخصيات والضباط والجنود بجيش الاحتلال.
وأوضح مخول للجزيرة نت أن القرار يؤسس لمرحلة جديدة في علاقة المجتمع الدولي مع الكيان الصهيوني بشأن مساءلته دوليا، وإدراج قادته السياسيين والعسكريين ضمن قائمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وذلك للمرة الأولى منذ النكبة الفلسطينية عام 1948.
وبرأي الباحث مخول، فإن القرار، الذي يشكل دعما جوهريا لدعوى جنوب أفريقيا ودول أخرى لدى محكمة العدل الدولية، يضع حجر الأساس لإصدار مذكرات اعتقال ضد مئات الضباط والجنود الصهيونيين الذين تنظر الجنائية الدولية ومحاكم بأوروبا في إصدار مذكرات اعتقال بحقهم.
وبخصوص موقف الكيان الصهيوني من القرار، يقول مخول إن نتنياهو -فور صدور القرار- وجد إلى جانبه إجماعا “قوميا صهيونيا” من جميع المعسكرات والتيارات السياسية يدين الجنائية الدولية، إذ كرر “خطاب اللاسامية وزعم أن المحكمة تستهدفه في حين يقود حرب الوجود الصهيونية، الأمر الذي سيزيد شعبيته في أوساط اليمين”.
ولا يستبعد الباحث أن يجد الكيان الصهيوني نفسه في ورطة العلميات العسكرية والمخططات التي تنفذها في قطاع غزة وخاصة بالشمال، وقد تتراجع طموحاتها بالتطبيع وقد تتضرر علاقاتها الدبلوماسية مع دول غربية، وقد يكون القرار أداة قانونية لمنظمات حقوقية عالمية لوقف تزويد تل أبيب بالأسلحة والذخيرة.
وحيال ذلك، يرى مخول أن قرار الجنائية الدولية يشكل انطلاقة جديدة لمساعي وقف حرب الإبادة على غزة، قائلا إن “جوهر القرار أبعد من حصره في الجانبين القانوني والقضائي، بل يشكل حدثا متدحرجا بأبعاد فلسطينية وعربية ودولية، من أجل إنهاء الاحتلال الصهيوني وقيام الدولة الفلسطينية بموجب القرارات الدولية”.
بعد قرار الجنائية الدولية
صحف عالمية : “الكيان الصهيوني يخسر معركته من أجل الشرعية وحشد الدعم الدولي”
سلطت صحف عالمية وصهيونية الضوء على إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بسبب ارتكابهما جرائم حرب في قطاع غزة.
فيرى مقال في صحيفة هآرتس الصهيونية أن إصدار “الجنائية الدولية” مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت يمثل انتكاسة للكيان الصهيوني ويعكس أدنى مستوى له في معركته من أجل الشرعية وحشد الدعم الدولي.
ووفق المقال، فإن الصهيونيين الذين شعروا بدعم كثير من دول العالم بعد هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر 2023 “يفيقون اليوم بعد 13 شهرا ليجدوا بلادهم معزولة ومدانة ومتهمة بارتكاب جرائم حرب”.
بدورها، وصفت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية قرار الجنائية الدولية بالتصعيد الدراماتيكي في الإجراءات القانونية ضد الكيان الصهيوني على خلفية الحرب على غزة، مشيرة إلى أنه القرار الأول من نوعه ضد مسؤول مدعوم من الغرب.
وحسب الصحيفة، فإن من شأن القرار تعزيز الشعور بأن الكيان الصهيوني يعيش عزلة دولية متزايدة بسبب سلوكها في الحرب على غزة.
أما صحيفة لوموند الفرنسية، فقالت في تقرير لها إن الولايات المتحدة معزولة بعد استخدام حق النقض (الفيتو) مرة أخرى ضد قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة.
وفق التقرير، كان يتوقع المفاوضون أن تراجع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن موقفها قبل وصول إدارة دونالد ترامب المؤيدة بشدة للكيان الصهيوني.
بشأن المجاعة في القطاع الساحلي، خلص تقرير في صحيفة الغارديان البريطانية إلى أن مقومات إنتاج الغذاء شبه معدومة في غزة، مستندا إلى معطيات أممية تقدر تضرر 70 % من الأراضي الزراعية ونفوق 90 % من الماشية.
واستذكر التقرير نفي الكيان الصهيوني الدائم الاتهامات بمحاولة جعل أجزاء من غزة غير صالحة للعيش، مشيرا في هذا السياق إلى أن ذلك يتناقض مع أحدث صور الأقمار الصناعية المُبينة لحجم الدمار الذي أحدثته.
بدورها، ذكرت صحيفة جيروزاليم بوست الصهيونية أن هناك معارضة قوية في الكيان الصهيوني لما راج بشأن مساعي نتنياهو لتحضير مشروع قانون لإنشاء لجنة تحقيق سياسية في أحداث السابع من أكتوبر 2023 ومنع أي تحقيق من نوع آخر.
ونبهت الصحيفة إلى أن خطط نتنياهو أثارت حفيظة أهالي القتلى في الهجوم وعديد من القادة السياسيين، مؤكدة أن التحقيق الرسمي هو الأكثر قوة واستقلالية، إذ يعيّن رئيس المحكمة العليا أعضاء اللجنة المكلفة به.
إعداد : سارة دالي