بقلم الدكتور : رضوان بوهيدل
تعد دولة مالي، الواقعة في قلب منطقة الساحل الإفريقي، نموذجا للتحديات السياسية والأمنية، التي تواجهها الدول الإفريقية ككل، وذلك منذ عام 2012، حيث تشهد مالي نزاعا مسلحا معقدا، يجمع بين أبعاد محلية وإقليمية ودولية، وهذا الصراع لا يقتصر على تحديات الإرهاب والانفصال، بل يتشابك مع قضايا الهوية، سوء الحوكمة، والتدخلات الخارجية، مما يجعله من أكثر النزاعات تعقيدا في القارة.
من أهم الأسباب الجذرية للنزاع في مالي نذكر التهميش والإقصاء السياسي، أين تعاني مناطق الشمال المالي، حيث يتركز الطوارق وبعض الجماعات العرقية الأخرى، من تهميش سياسي واقتصادي مزمن منذ الاستقلال عن فرنسا في 1960، أدى غياب التنمية والبنية التحتية في هذه المناطق إلى شعور السكان بالغبن، ما أسهم في تصاعد مطالب الانفصال، وأزمة الهوية العرقية والانفصال، حيث تعتبر حركة الطوارق الانفصالية أحد أبرز محركات النزاع في دولة مالي، ففي عام 2012، أعلنت “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” استقلال شمال مالي، لكنها واجهت رفضا من الحكومة المالية والمجتمع الدولي. بشكل عام، وانتشار الإرهاب، حيث استغلت الجماعات الإرهابية، مثل “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”أنصار الدين”، حالة الفوضى في الشمال لتوسيع نفوذها، وسرعان ما أصبحت هذه الجماعات تهديدا رئيسيا، حيث سيطرت على أجزاء واسعة من البلاد لفترة من الزمن، بالإضافة غلى عامل آخر وهو سقوط النظام المركزي، حيث أدى الانقلاب العسكري في سنة 2012 إلى تفاقم الأزمة السياسية، مما أسفر عن فراغ أمني استغلته الجماعات المسلحة المختلفة في المنطقة ككل، وعامل تغيرات مناخية وصراعات على الموارد، حيث ساهمت التغيرات المناخية في تدهور الأوضاع الاقتصادية، حيث يعتمد السكان المحليون على الزراعة والرعي، وقد اتخذت النزاعات على الموارد الطبيعية، مثل المياه والمراعي، بعدا آخر للصراع.
بدأت الأزمة الحالية بهجوم شنه الطوارق في شمال مالي، سرعان ما تحول إلى سيطرة جماعات إرهابية على مناطق رئيسية مثل تمبكتو وكيدال وغاو، أما في سنة 2013، أطلقت فرنسا ما يعرف بعملية “سرفال” العسكرية لدعم الحكومة المالية واستعادة السيطرة على شمال البلاد، ولاحقا، حلت عملية “برخان” محلها، مع دعم من منظمة الأمم المتحدة وقوات إقليمية أخرى، مثل مجموعة دول الساحل الخمس، في سنة 2015 تم توقيع اتفاق سلام بين الحكومة المالية والحركات المسلحة برعاية الجزائر، لكن تنفيذه تعثر بسبب انعدام الثقة بين الأطراف وغياب الإرادة السياسية، كما شهدت المنطقة تصاعد في الهجمات الإرهابية، فرغم التدخل الدولي، استمرت الجماعات الإرهابية في تنفيذ هجمات واسعة، مستهدفة القوات الأمنية والمدنيين على حد سواء، حيث امتدت العمليات إلى مناطق وسط مالي وجنوبها، مع تصاعد التوترات بين الجماعات العرقية، وكذا الانقلابات المتكررة، حيث شهدت مالي انقلابين عسكريين في 2020 و2021، مما زاد من حالة عدم الاستقرار السياسي، فحكومة الانقلاب التي يقودها المجلس العسكري لم تنجح في استعادة الأمن أو تعزيز الديمقراطية، مثلما ادعت ووعدت، بالإضافة إلى عدد من التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية، أهمها الأزمة الإنسانية، حيث أدى النزاع إلى نزوح مئات الآلاف من السكان داخليا، ولجوء آخرين إلى دول مجاورة، كما يعاني الملايين من انعدام الأمن الغذائي وسوء الخدمات الصحية، وتهديد الأمن الإقليمي، حيث أدى انتشار الجماعات الإرهابية والأسلحة إلى زعزعة استقرار دول الجوار مثل النيجر وبوركينافاسو، كما أصبحت منطقة الساحل الإفريقي بأكملها ساحة مفتوحة للصراعات المسلحة، وضعف التنمية الاقتصادية، بحيث أثرت الحرب بشكل كبير على الاقتصاد المالي، حيث تضررت الزراعة والتجارة والسياحة، حيث تشهد البلاد معدلات فقر مرتفعة، مع ارتفاع البطالة وتراجع الاستثمار الأجنبي، والتدخلات الخارجية، والتي على الرغم من الجهود الدولية لتحقيق الاستقرار، فإن التدخلات العسكرية والدبلوماسية لم تحقق نتائج ملموسة بسبب تعدد الأجندات وتباين المصالح بين الأطراف الخارجية.
من بين الجهود والحلول والمبادرات السلمية والتحديات، تعمل منظمة الأمم المتحدة من خلال بعثتها في مالي “مينوسما” على دعم الاستقرار، لكن بعثتها تواجه تحديات لوجستية وأمنية، كما تلعب الجزائر دورا رئيسيا في الوساطة بين الأطراف المتصارعة، والبحث في فرص تعزيز الحكم الرشيد:، حيث يجب على الحكومة المالية تحسين إدارتها السياسية والاقتصادية لتلبية تطلعات المواطنين، خاصة في المناطق المهمشة.، ومواجهة الإرهاب، والذي يتطلب القضاء عليه تعاونا إقليميا ودوليا أقوى، بالإضافة إلى تعزيز قدرات الجيش المالي، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث لا يمكن تحقيق السلام المستدام دون معالجة الفقر، ورغم تعقيد النزاع في مالي، يمكن تحقيق التقدم من خلال إعادة بناء الثقة بين الأطراف، حيث يتطلب ذلك تنفيذ اتفاق السلام بشكل كامل، مع ضمان مشاركة حقيقية لجميع المكونات الوطنية، وتعزيز التعاون الإقليمي، من خلال توحيد جهود دول منطقة الساحل الإفريقي، لمكافحة الإرهاب والتعامل مع القضايا الأمنية المشتركة، كما يحتاج المجتمع الدولي إلى توفير دعم مستدام لمالي، ليس فقط في الجانب الأمني، ولكن أيضا في مجالات التنمية الإنسانية والاقتصادية، كما يجب إصلاح المؤسسات الوطنية، وتعزيز سيادة القانون وبناء مؤسسات قوية وشفافة لتحسين شرعية الحكومة واستعادة الثقة الشعبية.
النزاع في مالي هو مثال صارخ على تحديات الحوكمة والأمن والتنمية في قارة إفريقيا، وعلى الرغم من تعقيداته، يمكن التوصل إلى حلول مستدامة إذا تم تبني نهج شامل يشمل الجوانب السياسية، الأمنية، والتنموية، ويبقى السلام في مالي هدفا يمكن تحقيقه بشرط التزام الأطراف الوطنية والدولية، بالعمل معا على أساس من الثقة والشفافية.