تصعيد بوركينا فاسو ضد “أفريكوم”
بدر الدين كليبي
في سابقة جديدة من سلسلة التوترات التي تولّدها الحكومة الانتقالية في بوركينا فاسو، أصدرت وزارة الخارجية بيانًا شديد اللهجة يهاجم التصريحات الأخيرة للجنرال مايكل لانجلي، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، واصفة إياها بأنها “منحازة وسياسياً مدفوعة”. غير أن من يتابع المشهد البوركينابي بواقعية وموضوعية، يدرك تمامًا أن هذا البيان لا يعدو كونه رد فعل انفعالي ناتج عن ضيق الأفق السياسي، وعجز النظام الحاكم عن إدارة الملفات الداخلية بشكل مسؤول وشفاف.
الجنرال لانجلي، في جلسة استماع رسمية أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، لم يُدلِ بتصريحات عدائية، بل عبّر عن قلق استراتيجي مشروع تجاه توجهات دولة أصبحت تغرد خارج السرب، وتبتعد تدريجياً عن مبادئ الشراكة، الحوكمة الرشيدة، واحترام المواثيق الدولية. فاتهام القيادة الأمريكية بالانحياز لا يُخفي الحقيقة التي يعلمها الجميع: بوركينا فاسو تمر بأخطر مراحلها، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، بينما تصر سلطاتها على تسويق خطاب السيادة في محاولة يائسة لتمويه الإخفاقات المتراكمة.
الخطاب السيادي المزعوم: غطاء هش للفشل الصريح
لا يمكن لأي متابع للشأن الإفريقي أن يتجاهل الانحدار الواضح في مؤشرات حقوق الإنسان والحريات العامة في بوركينا فاسو منذ تولي المجلس العسكري السلطة. فالإغلاق السياسي، والتضييق على الصحافة، وملاحقة الأصوات المعارضة، أمور باتت جزءًا من المشهد اليومي في البلاد، وسط صمت رسمي يُبرر كل شيء تحت شعار “محاربة الإرهاب”.
أما على المستوى الأمني، فإن الحكومة التي تدّعي تحقيق إنجازات “هائلة” في مواجهة الجماعات الإرهابية، تغفل عمدًا الإقرار بأن أكثر من نصف أراضي البلاد لا تزال خارجة عن سيطرة الدولة، وأن آلاف المواطنين يعيشون في نزوح دائم بسبب تردي الوضع الأمني، دون خطط فعالة لإعادة الاستقرار أو تقديم الدعم الإنساني الكافي.
عزلة دبلوماسية متعمدة… وتحالفات مثيرة للريبة
يحق لكل دولة أن تختار شركاءها وفق مصالحها الوطنية، لكن حين تتحول الشراكة إلى انغلاقٍ وعداء تجاه قوى دولية ساهمت فعليًا في دعم الأمن الإقليمي لسنوات، فإن الأمر يتجاوز منطق السيادة ليصبح مشروع قطيعة غير مبررة، تُراد بها فقط استرضاء تحالفات جديدة قائمة على المصالح الضيقة والانحيازات الجيوسياسية. فالتقارب اللافت مع قوى تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جهات “مزعزعة للاستقرار”، يضع بوركينا فاسو في خانة الدول التي تفضل الاصطفاف الأيديولوجي على حساب مصالح شعوبها الحقيقية.
“أفريكوم” ليست العدو… بل كانت دومًا شريكًا في محاربة الإرهاب
من المفارقة أن تتهم واغادوغو القيادة العسكرية الأمريكية بانعدام الحياد، في حين أن “أفريكوم” لعبت طوال عقدين من الزمن دورًا محوريًا في دعم جيوش غرب إفريقيا، وتدريب القوات الخاصة، وتقديم المساعدة اللوجستية في مكافحة الجماعات الإرهابية، بما فيها تلك التي تنشط على التراب البوركينابي. تجاهل هذا التاريخ المشترك، ومحاولة شيطنته، يكشف عن أزمة عميقة في تقدير المصالح الوطنية، وعن نزعة عدائية جديدة تقود البلاد إلى عزلة دبلوماسية خانقة.
خاتمة: لا سيادة بلا مسؤولية ولا شراكة بلا مصداقية
بوركينا فاسو، كدولة إفريقية ذات سيادة، من حقها أن تحدد توجهاتها. لكن السيادة لا تعني الهروب من المحاسبة، ولا تبرر استخدام لغة هجومية تجاه شركاء قدموا الدعم حين كانت البلاد في أمس الحاجة إليه. من السهل إطلاق الشعارات، ولكن من الصعب بناء مؤسسات مستقرة، واقتصاد منتج، وأمن دائم. وهنا تكمن المعضلة الحقيقية التي تحاول الحكومة البوركينابية التهرب منها عبر افتعال صدامات خارجية لا جدوى منها.
البيان الصادر عن وزارة الخارجية لم يكن سوى حلقة جديدة في سياسة التصعيد الإعلامي والاستثمار في الخطاب الشعبوي، وهو ما يؤكد أن النظام الحالي، بدلًا من أن يستثمر في بناء الثقة، اختار أن يستثمر في خطاب المواجهة والمظلومية. وهي خيارات خطيرة لن يدفع ثمنها سوى الشعب البوركينابي نفسه.