باغتت المباحثات المباشرة بين الولايات المتحدة وحركة حماس، الكيان الصهيوني والتي أنتجت اتفاقًا على إطلاق سراح الأسير الصهيوني- الأميركي عيدان ألكسندر من الأسر.
فاجأت هذه المباحثات والاتفاق الكيان الصهيوني، والذي يُكرر سيناريو الاتفاق بين الولايات المتحدة وجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وفي الحالتين، جاء الاتفاق الأميركي مع لاعبين سياسيين من دون الدولة، وشمل تحقيق مصالح أميركية، مع الحوثي بتأمين الملاحة البحرية الأميركية، ومع حركة حماس بإطلاق سراح أسير يحمل الجنسية الصهيونية.
وفي الحالتين تُركت المصالح الصهيونية جانبًا، مع الحوثي لم يشمل الاتفاق وقف إطلاق الصواريخ على الكيان الصهيوني وحرية تنقل السفن الصهيونية، ومع حماس لم يشمل إطلاق سراح المزيد من الأسرى الصهيونيين، وشمل إدخال مساعدات إنسانية للقطاع.
لم يكن الاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة وحماس هو المؤشر الوحيد على إعلاء شأن المصالح الأميركية على الصهيونية، فقد سبقه بدء المباحثات الأميركية الإيرانية، والموقف الأميركي من الملف السوري، وتفضيل دونالد ترامب الدور التركي في سوريا على الكيان الصهيوني.
اعتقد الكيان الصهيوني أن المصالح الأميركية في المنطقة سوف تكون متساوية وبموازاة المصالح الصهيونية في الملفات المختلفة، وتفاجأت أن المصالح الأميركية تسبق المصالح الصهيونية حتى لو تضاربت معها.
والفشل في هذه الحالة مضاعف، أولًا لأن هذه هي المرّة الثانية التي تجري الإدارة الأميركية مفاوضات مع حماس، فقد جرت المرّة الأولى من خلال المبعوث الأميركي لشؤون الرهائن آدم بولر، وعبّرت الكيان الصهيوني حينها عن انزعاجها منها، وعملت على إفشالها، وتصوّرت أنها لن تتكرر، لا سيّما بعد إنهاء بولر منصبه في أعقاب هذه المباحثات، والمرّة الثانية أن المباحثات أفضت لاتفاق مع حماس من وراء ظهر الكيان الصهيوني، ودون علمها وتنسيق معها.
تكمن أهمية الاتفاق في عدة نقاط، أهمّها كسر الحالة السياسية والعسكرية في قطاع غزة، وذلك في ظل التعنّت الصهيوني بعدم الذهاب لمباحثات حول وقف الحرب أو لهدنة إلا وَفق المقترح الصهيوني، ومن شأن الاتفاق أن يكسر العملية العسكرية وتوسيعها في حالة فرض هذا الاتفاق بدء مباحثات حول التوصل لاتفاق أو لهدنة بشروط جديدة.
يُشكل الاتفاق مع حماس فشلًا سياسيًا للكيان الصهيونيي، وهو بالضبط الوصف الذي قدّمه رئيس المعارضة يائير لبيد للاتفاق بين حماس والولايات المتحدة.
كما أنه كسر سلاح التجويع الذي اتّبعه الكيان الصهيوني للضغط على حركة حماس للتنازل والقبول بهدنة وصفقة جزئية وَفق الشروط الصهيونية، والتي تتمحور حول إطلاق سراح نصف الأسرى الصهيونيين الأحياء والأموات، مقابل إدخال المساعدات الإنسانية، وهدنة لمدة 40 يومًا، دون التعهّد بوقف الحرب، وانسحاب القوات الصهيونية من المناطق التي احتلتها في قطاع غزة.
يحمل الاتفاق تصدعًا في التصور الصهيوني والسياسات الصهيونية في قطاع غزة، والتي رسمت الحكومة معالمها في المصادقة على توسيع العملية العسكرية، واستعمال سلاح التجويع، فضلًا عن أنّه يشكل تصدعًا في أن الضغط على حركة حماس من شأنه الإفراج عن الأسرى الصهيونيين، وهو لم تنجح به الحكومة منذ بداية سياسة التجويع في أول مارس، وما تبعها من إطلاق عملية “شجاعة وسيف” العسكرية في منتصف مارس، في حين أنّ المباحثات المباشرة بين الولايات المتحدة وحماس أدّت إلى إطلاق سراح الأسير الأميركي.
سقوط اللبنات من جدار المنظومة الصهيونية سيُحدث تصدّعًا في الحكومة الصهيونية التي ستكون في مأزق سياسي واجتماعي داخلي كبير، فضلًا عن الضغط الأميركي القادم من أجل بدء مباحثات حول هدنة تكسر عمليًا الجدول الزمني للعملية العسكرية الصهيونية التي سمّيت “عربات جدعون”.
صحيح أن القرار الأميركي ببدء مباحثات مع حماس جاء عشية زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة، ورغبته في إطلاق سراح الأسير الأميركي الحيّ الوحيد لدى حماس وتسجيله كإنجاز جديد له، ولكنه أيضًا جاء في خضم وصول السياسات الصهيونية في قطاع غزة إلى حالة من الجمود، حيث استنفدت الكيان الصهيوني كل وسائل الضغط على حركة حماس وأهمها سلاح التجويع الذي تم بصورة منهجية ومثابرة بشكل غير مسبوق في كل الصراعات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.
فالولايات المتّحدة منحت الكيان الصهيوني الفرصة لتأكيد مقولته إن مزيدًا من الضغط على حركة حماس سينتج اتفاقًا يستجيب لأهداف الحرب الصهيونية، وعلى هذا الأساس تمّ السكوت عن انتهاك الكيان الصهيوني اتفاق وقف إطلاق النار بعد انتهاء المرحلة الأولى منه.
أشارت التقديرات الصهيونية والأمنية إلى أن تحقيق أهداف الحرب بالقضاء على حركة حماس يحتاج لسنوات، كما أن سلاح التجويع استنفد وقته، وأصبحت الكارثة الإنسانية في قطاع غزة تضغط على المجتمع الدولي، وتحرج الولايات المتحدة، وزاد الأمر انحطاطًا تراكم التصريحات الصهيونية الصادرة عن “أخلاقية التجويع” و”قتل الغزيين من الطفل للشيخ العجوز”، وظهرت الكيان الصهيوني كآلة تدمير عمياء لا تُبالي بقوانين دولية وإنسانية، ويفاخر بذلك، وهو خطاب رافقته سياسات تُهدّد الاستقرار في المنطقة وتنسف الرؤية الأميركية حول خلق بيئة استقرار وأرضية للسلام والاستثمار، وتصفير الصراعات، وخفض التوتر.
تكمن المشكلة لدى نتنياهو في أنه لا يملك أدوات ضغط على الرئيس ترامب، عايش نتنياهو في ولاياته الحكومية المختلفة ثلاثة رؤساء ديمقراطيين؛ (بيل كلينتون، باراك أوباما، وجو بايدن) ورئيسًا جمهوريًا واحدًا هو ترامب.
وعندما كان يصطدم مع رئيس ديمقراطي كان يُعوّل على الحزب الجمهوري في الكونغرس للضغط على الرئيس الديمقراطي، أو التملّص من التزاماته أمامه، هذا ما حدث مع كلينتون في اتفاق أوسلو، ومع أوباما في الاتفاق النووي عام 2015، ومع بايدن في عدم الذهاب إلى مقترح بايدن بوقف الحرب في غزة، والذي أقرّه مع مجيء ترامب.
سيحاول نتنياهو تجاوز هذه الأزمة من خلال إقناع الإدارة الأميركية بالتباحث حول مقترح ويتكوف الأصلي الذي نصّ على إطلاق سراح خمسة أسرى صهيونيين أحياء مقابل هدنة، وبدء المباحثات على مستقبل غزة السياسي ليكسب الوقت، فقط بهذه الطريقة- إن نجح بها طبعًا- سيتمكّن من الحفاظ على حكومته دون توسيع العملية العسكرية التي تحمّس لها اليمين عمومًا، واليمين الديني المتطرّف خصوصًا.
وغير هذا الخيار، فإنّ نتنياهو أمام طريقَين: إما الموافقة على وقف الحرب وإسقاط حكومته، أو المضيّ بها والصدام مع ترامب.