بقلم الدكتور : رضوان بوهيدل
إن استنزاف الموارد الطبيعية في قارة إفريقيا يمثل أحد أبرز التحديات التي تواجه القارة السمراء منذ قرون وحتى اليوم، فتاريخيا كانت إفريقيا مسرحا للاستغلال الخارجي من قبل القوى الاستعمارية التي استهدفت ثرواتها الهائلة من المعادن والموارد الزراعية والموارد البشرية، وهذا الاستنزاف لم يقتصر على مرحلة الاستعمار بل استمر بشكل مختلف في ظل الهيمنة الاقتصادية والنفوذ السياسي للقوى العالمية الكبرى والصاعدة التي تستغل هشاشة الأنظمة السياسية وضعف التنمية والأمن في القارة لتحقيق مصالحها الخاصة، والقوى الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث ركزت جهودها على استنزاف الموارد الطبيعية لإفريقيا من أجل دعم اقتصاداتها المتنامية، الذهب والماس والمعادن الثمينة كانت في صلب الاهتمام، بينما تم تحويل القارة إلى مصدر رئيسي للمواد الخام مثل القطن والمطاط، وهذا الاستغلال أدى إلى تدمير الاقتصاديات المحلية وفرض أنظمة اقتصادية تخدم المصالح الاستعمارية على حساب التنمية المستدامة للشعوب الإفريقية، إضافة إلى ذلك فإن عمليات نقل السكان واستغلالهم كعبيد تركت آثارا اجتماعية وثقافية مدمرة ما زالت إفريقيا تعاني منها حتى اليوم، ففي مرحلة ما بعد الاستعمار، استمرت القوى العالمية في استنزاف الموارد الإفريقية عبر آليات اقتصادية وسياسية جديدة، كما أن الشركات متعددة الجنسيات أصبحت لاعبا رئيسيا في السيطرة على الموارد، حيث تقوم باستغلال النفط والغاز والمعادن في العديد من الدول الإفريقية دون تقديم فوائد ملموسة للسكان المحليين، والفساد والضعف المؤسسي في العديد من الدول الإفريقية ساهما في تعزيز هذا الاستنزاف، حيث تتعاون النخب المحلية مع الشركات الأجنبية لتحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة الوطنية، وهذا النمط من الاستغلال أدى إلى استمرار الفقر والبطالة وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
من جهتها، القوى الصاعدة مثل الصين والهند دخلت أيضا بقوة إلى المشهد الإفريقي خلال العقود الأخيرة، فالصين على وجه الخصوص أصبحت شريكا رئيسيا للعديد من الدول الإفريقية في مجالات البنية التحتية والتجارة، لكنها أيضا متهمة باستنزاف الموارد الطبيعية عبر مشاريعها الاستثمارية الضخمة، بحيث أن الصين تستورد كميات هائلة من النفط والمعادن من إفريقيا لدعم نموها الاقتصادي المتسارع، ما يثير مخاوف بشأن استدامة الموارد الطبيعية ومستقبل القارة، أما الهند بدورها تعزز وجودها في إفريقيا من خلال استثمارات كبيرة في قطاع التعدين والزراعة، لكن الفوائد التي تجنيها الدول الإفريقية من هذه الاستثمارات تبقى محدودة.
على صعيد آخر، يعتبر غياب التنمية والأمن في القارة يشكل عاملا رئيسيا في استمرار استنزاف الموارد، حيث أن العديد من الدول الإفريقية تعاني من نزاعات مسلحة وعدم استقرار سياسي مما يجعلها غير قادرة على استغلال مواردها بشكل فعال، كما أن الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية تسيطر على مناطق غنية بالموارد في بعض الدول مثل الكونغو ونيجيريا وليبيا، حيث يتم تهريب المعادن والنفط لتمويل أنشطتها، وهذا الوضع يزيد من تعقيد المشهد ويجعل التنمية المستدامة أمرا بعيد المنال، بينما التحديات البيئية المرتبطة باستنزاف الموارد تضيف بعدا آخر للأزمة، واستخراج النفط والتعدين يؤديان إلى تدمير البيئة وتلوث المياه والتربة، مما يؤثر سلبا على المجتمعات المحلية التي تعتمد على الموارد الطبيعية في معيشتها، بالإضافة إلى إزالة الغابات لاستغلال الأخشاب والأراضي الزراعية تسهم في تفاقم أزمة تغير المناخ التي تضرب القارة بشكل غير متناسب، وهذه التحديات البيئية تشكل عائقا إضافيا أمام تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة.
في سياق متحصل يمكن القول أن المستقبل يحمل فرصا وتحديات في آن واحد، فقارة إفريقيا تمتلك إمكانيات هائلة إذا ما تم استغلال مواردها بشكل عادل ومستدام، والتصاعد في الوعي بأهمية التنمية المستدامة والدعوات إلى إنهاء الاستغلال الخارجي قد يفتح المجال أمام تحقيق تحول إيجابي في سياسات إدارة الموارد، فالدول الإفريقية بحاجة إلى بناء مؤسسات قوية وقادرة على التفاوض مع القوى العالمية لضمان تحقيق مصالحها الوطنية، كما أن تعزيز التعاون الإقليمي من خلال الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الأخرى يمكن أن يسهم في مواجهة التحديات المشتركة وتعزيز القدرات الاقتصادية للدول الأعضاء، كما أن الابتكار التكنولوجي يمكن أن يلعب دورا هاما في تقليل الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية واستخدام الموارد بطرق أكثر كفاءة واستدامة. تطوير الصناعات المحلية المرتبطة بالموارد الطبيعية قد يساعد في خلق فرص عمل وتحقيق قيمة مضافة للاقتصادات الإفريقية، مع ذلك، يبقى تحقيق هذا التحول مرتبطا بتوافر الإرادة السياسية والقدرة على تجاوز التحديات الأمنية والمؤسسية التي تعرقل جهود التنمية، وفي المقابل، استمرار السياسات الحالية من قبل القوى العالمية والصاعدة قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع في القارة. استمرار الاستنزاف دون تحقيق تنمية محلية يعمق الفجوة الاقتصادية ويزيد من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية، هذا السيناريو قد يدفع المزيد من السكان إلى الهجرة غير الشرعية ويزيد من انتشار التطرف والعنف في المنطقة، مما يشكل تهديدا للأمن والاستقرار على الصعيدين الإقليمي والدولي.
في النهاية يمكن القول أن استنزاف الموارد الطبيعية في إفريقيا يمثل قضية معقدة تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية مع التحديات التنموية والبيئية، والتاريخ والماضي يحملان دروسا مهمة حول تكلفة الاستغلال الخارجي، بينما الحاضر يشير إلى استمرار هذه الديناميكيات بطرق جديدة، لذلك المستقبل يتطلب تغييرا جذريا في النهج المتبع لضمان تحقيق التنمية المستدامة والاستفادة العادلة من الثروات الطبيعية لصالح شعوب القارة، ولتحقيق هذا الهدف يعتمد على تعزيز الشفافية والمساءلة وتقوية التعاون الدولي والإقليمي في مواجهة التحديات المشتركة.